فالمصطلحات كلمات مستعملة أصلا، قبل التواضع على اصطلاحها، ثم إنها استعملت مصطلحا للدلالة على مذهب أو فكرة أو نحو ذلك .. فصارت دليلا وعلامة على هذا المذهب أو تلك الفكرة، لتمييزها عن غيرها، وفي عادة المصطلحين أنهم ما وضعوا مصطلحاتهم إلا لمنع تداخل غيره بها، وبخاصة نقيضها، فلا يعقل إذن، بعد الاحتياط الشديد منهم على التميز، أن يضمنوها ما يضادها؛ لأن معناه حينئذ انتفاء التميز، وإذا انتفى التميز لم يعد للمصطلح أية فائدة في وضعه .. !!.
* * *
فإذا قيل: سلمنا أن الفكرة لا تنقسم، لكن ألا تفرق بين ما هو أصل، وما هو طارئ؟!.
- فهذا "التشيع" في أصله محمود؛ كونه في معنى مناصرة آل البيت. لكن لما انحرف هذا المعنى: ذم.
- وهذا "العقل" في أصله محمود، لكن لما صار حكما على الشريعة: ذم.
فلم لا تجعل التصوف من هذا القبيل: في أصله محمودا؛ لدلالته على معنى الإحسان والعبادة، لكن لما انحرف بدخول الفلسفة عليه: ذم. فالمذموم منه طارئ عليه؟.
فالجواب أن يقال: هذا الاعتراض يتضمن أمرين، هما:
- الأول: تقسيم الفكرة إلى: أصل، وطارئ.
- الثاني: جعل أصل فكرة التصوف: محمودا.
فأما الأول: فممكن غير ممتنع أن يكون مصطلح "التصوف" موضوعا لمعنى معين، ثم طرأ عليه ما يضاد ويناقض المعنى الموضوع، فاستعمل بعدئذ في المعنيين: في الأول حقيقة، وفي الثاني تجوزا.
لكن هذا لا يلغي التقرير الآنف المتضمن: امتناع وجود فكرة تحمل معنيين متناقضين؛ لأن الامتناع من جهة الأصل، وأما الإمكان فمن جهة الطروء، وشتان ما بينهما.
فكلامنا في الأصل، وقد تقدم التنبيه على هذا بالقول: (في ذاتها)؛ والمعنى: في أصل ما وضعت له. والمعتبر الأصل، فالحكم يتبعه حمدا أو ذما، وأما الطارئ فهو دخيل، ولا حكم له.
وأما الثاني: فافتراض أن أصل مصطلح "التصوف" محمود ..
هكذا ابتداء، فتلك دعوى لا تقوم إلا ببرهان .. !!.
فإن للمعترض أن يعكس فيقرر أنه مذموم، فيطالب هو أيضا بالبرهان؟.
فرجع تحصيل الحقيقة إلى البرهان في كل حال.
وما دام أنه تقرر: امتناع جمع الفكرة بين النقيضين، من جهة أصلها. فإن المهمة التالية هي: التحقيق في هذه المسألة، بتحديد أصل التصوف .. ما هو؟.
أهو سني محمود، أم فلسفي مذموم؟.
* * *
- أصل التصوف.
التوصل إلى حقيقة الفكرة وأصلها، له طريقه المعروف غير المجهول:
- فأول ما يطرق هنا: معرفة أصل الكلمة من جهة اللفظ: نسبته، واشتقاقه.
وهذه الخطوة من الأهمية بمكان؛ حيث تفتح غوامض مسائل التصوف، خلافا لمن ظن أنها خطوة لا فائدة منها .. ؟!!، فإن المعاني ترتبط بالألفاظ، ومن رام تحصيل المعاني من غير طريق الألفاظ، لم يأمن من الخطأ.
- ثم: معرفة المعنى الذي وضع للكلمة، وذلك من خلال التعريفات التي وردت عن أئمة المذهب.
- ثم: دراسة تاريخ نشأة الفكرة، وظروف تكونها، وتراجم الأئمة.
هذه الأمور تبين أصل الفكرة وحقيقة الفكرة، ولا أظن أحدا يخالف في هذا، وإذا طبقنا هذه الخطوات على الفكرة الصوفية: بانت لنا حقيقتها:
أولا: معرفة اشتقاق كلمة "الصوفية".
- بدراسة أصل كلمة "الصوفية"، ونسبتها: نقف على حقيقة مهمة هي: أنه لا علاقة للتصوف بالصوف:
- فهذا ما شهد به أئمة التصوف، كالقشيري والهجويري، وغيرهما من الصوفية.
- وهذا هو المشهور من أحوال الصوفية؛ فإنه لا يعرف عنهم لبس الصوف، لا قديما، ولا حديثا، والمقصود: أنه ليس مما اشتهروا به، ولا يعكر على هذا: أن بعضهم لبس الصوف. فالعبرة بالشهرة والكثرة، فإذا كان الاشتقاق من الصوف، فيلزم أن يكون الأصل فيهم لبس الصوف، فإذا كان العكس هو حالهم، فحينئذ لا معنى لأن يكون مشتقا من الصوف؛ لأنهم لم يمتازوا به، وهذا ما قرره القشيري من المتصوفة، ومن غير المتصوفة ابن تيمية (الفتاوى 11/ 16)، وبذلك يستوي هم وغيرهم فيه.
ثانيا: معرفة معنى "التصوف".
- بدراسة أصل معنى "التصوف": تتضح حقيقة التصوف. وهي: تخليص الروح من سجن البدن، لتعود وتتحد بمصدرها الأول، الذي خرجت منه، وذلك لن يكون إلا عن طريق الفناء عن الصفات البشرية أو البشرية!!. فالتصوف ليس زهدا، فهذا أمر يرده أئمة التصوف، وتعريفاتهم شاهدة، بل هو الفناء:
- شهد بهذا حذاق المتصوفة، كالطوسي، والهجويري، والشاذلي، وأبو الوفا التفتازاني.
¥