فإننا لو أخرجنا كل من خالف السنة بشيء، لما بقي في دائرة السنة أحد؛ فالمخالفة واردة، فلا يأمن أحد الخطأ ولا الزلة، سواء في صورة بدعة، أو معصية، حتى الكبار والمتقدمين السابقين.
أما المحاد، فهو المستحق أن يخرج من دائرة السنة، وهو الذي قد اتخذ منهجا بدعيا، وصار عليه، وبنى عليه مذهبه، كمن جعل منهجه العقل، أو الذوق، يرد بهما النصوص الثابتة. فهذا هو المبتدع.
وإذا طبقنا هذا الحد في تعريف المبتدع على المتصوفة: وجدنا عمومهم يعملون البدعة، دون محاداة، بل ظنا منهم أنها السنة، وآفتهم نقصان العلم، ولو علموا لتركوا، ومن هذا حاله لا يخرج من الدائرة.
قال ابن تيمية: "فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء، أو طريق أحد من العباد والنساك: أفضل من طريق الصحابة، فهو مخطئ، ضال مبتدع. ومن جعل كل مجتهد في طاعة، أخطأ في بعض الأمور: مذموما، معيبا، ممقوتا. فهو مخطئ، ضال مبتدع". (الفتاوى 11/ 15)
وبهذا يتبين أن عمومهم لا يستحق وصف المبتدع، ومن ثم فهم باقون في دائرة أهل السنة.
لكن إذا قيل: كيف حكمت أن هذا حال عمومهم، لم لا يكون العكس؟.
قيل: دليلنا على أن الكثرة غيرة متحققة بالتصوف:
1 - أن التحقق يحتاج إلى تعلم وذهن قادر على فهم المسائل الصوفية الفلسفية المعقدة، وليس كل المتصوفة لديهم الاستعداد.
2 - أن المتحققين بالتصوف يعملون على تعمية حقيقته عن العموم؛ لأن هؤلاء العموم لو أدركوا حقيقة التصوف، لما ترددوا في رفضه لما فيه من الكفر والإلحاد؛ لأن الأصل فيهم فطرة الإسلام، ولأن فهم صدق التدين.
3 - أنك لو سألت عمومهم عن حقيقة التصوف، ما أجابوا إلا بما يفيد أنه ذكر وعبادة، ليس إلا .. !.
إذن فالمتحققون قلة، وغير المتحققين هم السواد الأعظم، ومن هنا قلنا:
عموم المتصوفة من أهل السنة والجماعة.
وهذه النتيجة المجتناة من هذا البحث هي عينها ما يقرره ابن تيمية رحمه الله تعالى .. !!.
فهذا الإمام الذي أثنى على طائفة من أئمة التصوف: لم يترك للتصوف فكرة صوفية إلا ونقضها، وأبطلها، وحكم ببدعية التصوف، ولو كانت من السنة لما تعرض لها بالإبطال، ولما وصفها بالبدعة. (انظر: الاستقامة، والفتاوى 2/ 10/11)؛ ولأجله نفهم لم لا يقبله المتصوفة.
وموقف ابن تيمية من التصوف يمكن إيجازه في أربع كلمات:
- الكلمة الأولى:
أنه يقرر بدعية التصوف، كما يقرر بدعية الكلام، سواء بسواء. (الفتاوى [10/ 358،366،592]، [11/ 508،555]، [2/ 13،41،54]، الاستقامة 1/ 90،220 - 221])
- الكلمة الثانية:
لا يحكم بضلال عموم المتصوفة:
- بل من أصاب منهم شيئا من الحق (كالجنيد): أثنى عليه، وأمر بالاقتداء به، فيما أصاب فيه.
- ومن أخطأ (كالشبلي): اعتذر له. وذم خطأه، ونهى عن متابعته.
- ومن كان منهم رأسا في الكفر والزندقة (كابن عربي)، لم يتردد في بيان ضلاله.
- الكلمة الثالثة:
ثناؤه على المصيب من أئمة التصوف، ليس شهادة أنه على السنة في كل أموره، بل ثناء نسبي، ودليل ذلك: أنه لا يعدل بأهل القرون الثلاثة المفضلة أحدا، ويقرر أن أئمة التصوف دونهم في المنزلة واتباع السنة (الاستقامة [1/ 89،163]، الفتاوى [2/ 13]، [10/ 362]) وعندما يذكر موافقتهم للسلف، فإنما بحسب سياق المسألة التي بصددها، كما هو الحال حين كلامه على موقفهم من الصفات (الاستقامة 1/ 82 - 91، 94،102،111).
ولا يمتنع من بيان ما أخطؤوا فيه. وموقفه هذا مبني على أساس التزمه وعمل به، وهو: منهج الموازنة والمعادلة. فيعرف لأئمة التصوف ما لهم، وما عليهم، فلا يبخسهم حقهم، ولا يسكت عن خطئهم. (الفتاوى 10/ 362 - 366)
- الكلمة الرابعة:
أنه مع تقريره بدعية التصوف، يقرر كذلك أنه لا يخلو من حق، يؤخذ به، ويحمد عليه، وهكذا الأمر في الكلام والرأي، فالمنهج الذي يقرره: أن المذهب البدعي ليس كل ما فيه باطل، بل فيه من الحق بقدر ما فيه، والعدل والميزان: أخذ ما فيه من حق، وترك باطله.
مع الإشارة إلى أن ذلك الحق أصله موجود في السنة، وكأنه يرمي إلى أن الإشادة بالحق، ولو تضمنه مذهب بدعي، ينفع في هداية المعتنقين لهذا المذهب؛ إذ لا يتلقون إلا عنه. فهو إذن يتبع منهج المعادلة والموازنة في حكمه على الأفكار، كما في حكمه على الأشخاص (الفتاوى 10/ 82،370).
هذه الأمور ينبغي أن تلاحظ في تقريرات الإمام ابن تيمية لفكرة التصوف والمنتسبين إليها، فإن بعض الناس لما لم يفطن إليها: ظن أن الإمام يصحح بعض مذاهب التصوف، ويجعل منه: ما هو فلسفي، وما هو سني. وليس الأمر كذلك، بل هو عنده: بدعي، يتضمن حقا وباطلا، فيعرف حقه، وينكر باطله. وهذه المسألة تحتاج إلى بسط، والموضع لا يحتمل، غير أن المهم في الأمر هنا: أن المتبع لابن تيمية في نظرته إلى التصوف ينساق إلى العدل، وذلك بالتفريق في الحكم بين الفكرة والمنتسبين إليها.
- فأما الفكرة فإنها بدعة، هذا ما يقرره ابن تيمية.
- وأما المنتسبون، فمنهم الصالح، ومنهم المبتدع، ومنهم الزنديق.
ولأجل ذلك كان من اللازم: الحكم على عموم المتصوفة بأنهم من أهل السنة؛ لأن هذا هو العدل، والعدل هو الحق، لكن هذا لا يمنع من الحكم ببدعية فكرة التصوف في ذاتها؛ لأن هذا هو حقيقتها.
¥