ثم تذكر ما من الله تعالى به على الذين أدركوا صحبته، وسعدوا بمشاهدته واستماع كلامه، وأعظم تأسفك على ما فاتك من صحبته وصحبة أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ.
ثم اذكر أنك قد فاتتك رؤيته في الدنيا، وأنك من رؤيته في الآخرة على خطر، وأنك ربما لا تراه إلا بحسرة وقد حيل بينك وبين قبوله إياك بسوء عملك، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (يرفع الله إلي أقواما فيقولون: يا محمد. فأقول: يا رب أصحابي. فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: بعدا وسحقا) فإن تركت حرمة شريعته ولو في دقيقة من الدقائق، فلا تأمن أن يحال بينك وبينه بعدولك عن محجته.
وليعظم مع ذلك رجاؤك أن لا يحول الله تعالى بينك وبينه بعد أن رزقك الإيمان، وأشخصك من وطنك لأجل زيارته من غير تجارة ولا حظ في الدنيا، بل لمحض حبك له وشوقك إلى أن تنظر إلى آثاره وإلى حائط قبره، إذ سمحت نفسك بالسفر بمجرد ذلك لما فاتتك رؤيته، فما أجدرك بأن ينظر الله تعالى إليك بعين الرحمة.
فإذا بلغت المسجد فاذكر أنها العرصة التي اختارها الله سبحانه لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولأول المسلمين وأفضلهم عصابة، وأن فرائض الله سبحانه أول ما أقيمت في تلك العرصة، وأنها جمعت أفضل خلق الله حيا وميتا، فليعظم أملك في الله سبحانه أن يرحمك بدخولك إياه، فادخله خاشعا معظما.
وما أجدر هذا المكان بأن يستدعي الخشوع من قلب كل مؤمن، كما حكي عن أبي سليمان أنه قال: حج أويس القرني ـ رضي الله عنه ـ ودخل المدينة، فلما وقف على باب المسجد، قيل له: هذا قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فغشي عليه، فلما أفاق قال: أخرجوني فليس يلذ لي بلد فيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مدفون "
فضل جبل أحد
1 ـ عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: " أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طلع له أحد، فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت ما بين لابتيها "
2 ـ عن عقبة بن سويد الأنصاري، أنه سمع أباه، وكان من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " قفلنا مع نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غزوة خيبر، فلما بدا له أحد، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: الله أكبر جبل يحبنا ونحبه "
زيارة قبره ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قال الغزالي: " وأما زيارة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فينبغي أن تقف بين يديه كما وصفنا، وتزوره ميتا كما تزوره حيا، ولا تقرب من قبره إلا كما كنت تقرب من شخصه الكريم لو كان حيا، وكما كنت ترى الحرمة في أن لا تمس شخصه ولا تقبله، بل تقف من بعد ماثلا بين يديه، فكذلك فافعل، فإن المس والتقبيل للمشاهد عادة النصارى واليهود.
واعلم أنه عالم بحضورك وقيامك وزيارتك، وأنه يبلغه سلامك وصلاتك، فمثل صورته الكريمة في خيالك موضوعا في اللحد بإزائك، وأحضر عظيم رتبته في قلبك، فقد روي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أن الله تعالى وكل بقبره ملكا يبلغه سلام من سلم عليه من أمته)، وهذا في حق من لم يحضر قبره، فكيف بمن فارق الوطن وقطع البوادي شوقا إلى لقائه، واكتفى بمشاهدة مشهده الكريم إذ فاته مشاهدة غرته الكريمة، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلمـ: (من صلى علي مرة واحدة صلى الله عليه عشرا)،
فهذا جزاؤه في الصلاة عليه بلسانه، فكيف بالحضور لزيارته ببدنه.
ثم ائت منبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتوهم صعود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المنبر، ومثل في قلبك طلعته البهية كأنها على المنبر، وقد أحدق به المهاجرون والأنصار ـ رضي الله عنهم ـ وهو ـ صلى الله عليه وسلم يحثهم ـ على طاعة الله ـ عز وجل ـ بخطبته، وسل الله ـ عز وجل ـ أن لا يفرق في القيامة بينك وبينه، فهذه وظيفة القلب في أعمال الحج "
التفكر في القبول والرد
قال الغزالي: " فإذا فرغ منها كلها، فينبغي أن يلزم قلبه الحزن والهم والخوف، وأنه ليس يدري أقبل منه حجه وأثبت في زمرة المحبوبين أم رد حجه وألحق بالمطرودين؟!!
¥