وهكذا من أفرد الحج وبقي على إحرامه إلى يوم النحر ليس عليه إلا سعي واحد، فإذا سعى القارن والمفرد بعد طواف القدوم كفاه ذلك عن السعي بعد طواف الإفاضة، وهذا هو الجمع بين حديثي عائشة وابن عباس وبين حديث جابر المذكور – رضي الله عنهم، وبذلك يزول التعارض ويحصل العمل بالأحاديث كلها.
ومما يؤيد هذا الجمع أن حديثي عائشة وابن عباس حديثان صحيحان، وقد أثبتا السعي الثاني في حق المتمتع، وظاهر حديث جابر ينفي ذلك، والمُثبت مُقدَّم على النافي، كما هو مقرر في علمي الأصول ومصطلح الحديث، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
في بيان أفضلية ما
يفعله الحاج يوم النحر
والأفضل للحاج أن يرتب هذه الأمور الأربعة يوم النحر كما ذكر: فيبدأ أولاً برمي جمرة العقبة، ثم النحر، ثم الحلق أو التقصير، ثم الطواف بالبيت والسعي بعده للمتمتع، وكذلك للمفرد والقارن إذا لم يسعيا مع طواف القدوم، فإن قدم بعض هذه الأمور على بعض أجزأه ذلك؛ لثبوت الرخصة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك، ويدخل في ذلك تقديم السعي على الطواف؛ لأنه من الأمور التي تُفعل يوم النحر، فدخل في قول الصحابي: فما سُئل يومئذٍ عن شيء قُدَّمَ ولا أُخَّر إلا قال: " افعل ولا حرج " ولأن ذلك مما يقع فيه النسيان والجهل فوجب دخوله في هذا العموم؛ لما في ذلك من التيسير والتسهيل، وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه سئل عمن سعي قبل أن يطوف، فقال: " لا حرج " أخرجه أبو داود، من حديث أسامه بن شريك بإسناد صحيح، فأتضح بذلك دخوله في العموم من غير شك، والله الموفق.
والأمور التي يحصل للحاج بها التحلل التام ثلاثة وهي: رمي جمرة العقبة، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة مع السعي بعده لمن ذكر آنفاً، فإذا فعل هذه الثلاثة حل له كل شيء حرُم عليه بالإحرام من النساء والطيب وغير ذلك، ومن فعل اثنين منها حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء ويسمى هذا بـ: التحلل الأول.
ويستحب للحاج الشرب من ماء زمزم والتضلع منه، والدعاء بما تيسر من الدعاء النافع، وماء زمزم لما شُرب له، كما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي صحيح مسلم عن أبي ذر: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال في ماء زمزم: " إنه طعام طُعْمٍ " زاد أبو داود: " وشفاءُ سُقم " وبعد طواف الإفاضة والسعي ممن عليه سعي يرجع الحجاج إلى منى فيقيمون بها ثلاثة أيام بلياليها، ويرمون الجمار الثلاث في كل يوم من الأيام الثلاثة بعد زوال الشمس ويجب الترتيب في رميها.
فيبدأ بالجمرة الأولى: وهي التي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، يرفع يده عند كل حصاة ويُسن أن يتقدم عنها ويجعلها عن يساره، ويستقبل القبلة، ويرفع يديه ويُكثر من الدعاء والتضرع.
ثم يرمي الجمرة الثانية كالأولى، ويسن أن يتقدم قليلاً بعد رميها ويجعلها عن يمينه، ويستقبل القبلة، ويرفع يديه فيدعو كثيراً.
ثم يرمي الجمرة الثالثة ولا يقف عندها، ثم يرمي الجمرات في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال، كما رماها في اليوم الأول، ويفعل عند الأولى والثانية كما فعل في اليوم الأول؛ اقتداءً بالنبي – صلى الله عليه وسلم -.
والرمي في اليومين الأولين من أيام التشريق واجب من واجبات الحج، وكذا المبيت بمنى في الليلة الأولى والثانية واجب إلا على السقاة والرعُاة ونحوهم فلا يجب.
ثم بعد الرمي في اليومين المذكورين من أحب أن يتعجل من منى جاز له ذلك، ويخرج قبل غروب الشمس، ومن تأخر وبات الليلة الثالثة ورمى الجمرات في اليوم الثالث فهو أفضل وأعظم أجراً، كما قال الله – تعالى -: "واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى" ولأن النبي – صلى الله عليه وسلم – رخص للناس في التعجل، ولم يتعجل هو، بل أقام بمنى حتى رمى الجمرات في اليوم الثالث عشر بعد الزوال، ثم ارتحل قبل أن يُصلي الظهر.
¥