وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد هذه الأقوال: [وقول: هؤلاء التابعين أنه ((أي الزور)) أعياد الكفار ليس مخالفاً لقول بعضهم: إنه الشرك أو صنم كان في الجاهلية. وقول بعضم إنه مجالس الخنا. وقول بعضهم: إنه الغناء. لأن عادة السلف في تفسيرهم هكذا، يذكر الرجل نوعاً من أنواع المسمى لحاجة المستمع إليه، أو لينبّه به على الجنس. كما لو قال العجمي: ما الخبز؟ فيعطى رغيفاً ويقال له: هذا. بالإشارة إلى الجنس، لا إلى عين الرغيف. لكن قد قال قوم: إن المراد شهادة الزور التي هي الكذب. وهذا فيه نظر، فإنه تعالى قال: {لا يشهدون الزور} ولم يقل: لا يشهدون بالزور. والعرب تقول: شهدت كذا إذا حضرته، كقول ابن عباس: (شهد العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقول عمر (الغنيمة لمن شهد الوقعة). وهذا كثير في كلامهم. وأما: شهدت بكذا، فمعناه: أخبرت به.
وهكذا سمى الله تعالى أعيادهم زوراً، ونهى عباد الرحمن عن حضوره وشهوده، فإذا كان حضور أعيادهم ومشاهدتها لا تنبغي فكيف بمشاركتهم فيها والموافقة عليها] أ. هـ كلامه.
ثانيا: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما. فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر) [رواه أبو داود وصححه الألباني].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [فوجه الدلالة: أن العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلاَّ تركهم يلعبون فيها على العادة. بل قال: إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين. والإبدال من الشىء يقتضي تركَ المبدل منه. إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه].
ثم قال رحمه الله: [وأيضا فإن ذينيك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام، فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عهد خلفائه. ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما، ونحوه مما كانوا يفعلونه لكانوا قد بقوا على العادة. فلولا قوة المانع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكانت باقية ولو على وجه ضعيف. فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتاً، وكل ما منع منه النبي صلى الله عليه وسلم منعاً قوياً كان محرماً إذ لا يعني بالمحرم إلا هذا].
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها، أشد من المحذور في أعياد الجاهلة التي لا نقرهم عليها. فإن الأمة قد حُذّروا مشابهة اليهود والنصارى، وأخبروا أنه سيفعل قوم منهم هذا المحذور. بخلاف دين الجاهلية، فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر، عند اخترام أنفس المؤمنين عموماً، ولو لم يكن أشد منه، فإنه مثله على مالا يخفى إذ الشر الذي له فاعل موجود: يخاف على الناس أكثر من شر لا مقتضى له قوي]. أ. هـ كلامه.
ثالثا: عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ينحر إبلاً ببوانة (3) فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت، أن أنحر إبلاً ببوانة؟ فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد)؟ قالوا: لا، قال: (فهل كان فيها عيد من أعيادهم)؟
قالوا: لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَوْفِ بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم). [رواه أبو داود .. وصححه الألباني].
قال ابن تيمية: [أصل هذا الحديث في الصحيحين، وهذا الإسناد على شرط الصحيحين وإسناده كلهم ثقات مشاهير، وهو متصل بلا عنعنة].
فوجه الدلالة في الحديث كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يذبح في مكان كان الكفار يعملون فيه عيداً، وإن كان أولئك الكفار قد أسلموا وتركوا ذلك العيد، والسائل لا يتخذ المكان عيداً بل يذبح فيه فقط (علماً بأن العيد لم يكن موجوداً وقت السؤال). فقد ظهر أن ذلك سد للذريعة إلى بقاء شيء من أعيادهم، خشية أن يكون الذبح هناك سبباً لإحياء أمر تلك البقعة، وذريعة إلى اتخاذها عيداً مع أن ذلك العيد إنما كان يكون – والله أعلم – سُوقاً يتبايعون فيها ويلعبون، كما قالت له الأنصار: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية. لم تكن فيه أعياد الجاهلة عبادة لهم،
¥