تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فإذا اقتربت أقدام المحبين من الأعتاب، وأوشكت قلوبُهم أن تطرق الباب: فلا تسل عن أصوات البكاء من شوق اللقاء!! ولا تسل عن رفرفة الأرواح تكاد تخرج إلى تلك البطاح!!! فالقلوب تكابد الشوق من حين أن سمعت نداء الخليل –عليه السلام- من آلاف السنين، وتُجدِّدُ نارَ هذا الشوق في كل يوم وليلة بذاك التوجّه بالروح والجسد إليه، في أجلّ ساعات وأصفى لحظات وأهنأ أوقات.

فإذا شاء الله تعالى للقلوب أن تنعم باللقاء، فدخل الحُجّاج والمعتمرون والعاكفون والطائفون والركّع السجودُ البلدَ الحرام: فيا لله كيف ثبَّتَ اللهُ القلوب؟! فلو كان ما فيها بالجبال لانصدعت، إنه لقاء حُبٍّ قديم متجدِّد وشوقٍ من آلاف السنين!!!

قِفْ وانظر تلك الوجوه في تلك اللحظة: عبراتٌ مسفوحة، وأفراح تعجز عنها الأرواح، فترى هذا غَشْيانَ، وهذا دهشان لا يدري أهو في أرض أم سماء. وذاك يعانق البيت قبل أن يصل إليه؛ لأن روحه قد سبقته فصوّرته أنه بين يديه. والآخر عاجزٌ عن الحراك أيُّها البيتُ لمّا رآك، يخشى أن يكون ما فيه حُلمٌ سينتهي إن حاول أن يعانقك. وهناك من لا يكاد يرفع بصره إليك، واكتفى بالسجود لله تعالى بين يديك، هيبةً وتعظيماً. وأما هذا فلا يدري من أين يبدأ اللقاء، وكيف تكون طقوس الحب والوفاء، يحسب أنه لن تنطفئ أشواقُه إلا أن يموت هناك، وتطويه تلك البقاع في جوفها. وذاك أشرق وَجْهُهُ، ولم تعد تَطْرُفُ عينُه، لمّا اكتحل برؤياك، يخشى من النوم كما يخشى غيره الموت؛ لأنه سيمنعه من النظر إليك، ألا ترى أنه يخرج حين يخرج راجعاً القهقرى إلى ظهره، ودَّ أن يترك بصره عندك، بعد أن ترك قلبه لديك. وآخر استحضر التاريخ، فغلبه تاريخك العظيم، فرضي منه بلحظة واحدة، فتمثّل رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- يُصلّي خلف المقام، فكادت روحه أن تزهق لجلال هذا المقام، هُنَا صَلَّى الحبيبُ المصطفى –صلى الله عليه وآله وسلم-، وهنا طاف، وهنا ركع وسجد، وهُنا قام ودعا، وهنا بكى وبلّلت دموعه المباركة المكان، وهنا خَطَا، وهنا نام ... يا الله! آمنت أن الآجال بيد الله، وإلا لما كان للأرواح أن تصبر بعد هذا كُلّه.

مئاتُ الملايين من البشر حجّت هذا البيت الحرام، كل واحد منهم قد فاض قَلْبُه بجلال هذا الموقف، كل واحد منهم يظن نفسه وحيدَ حُبِّه وفريدَ وَلَهِه؛ لأنه يرى الأرض والسماء قد ضاقت عن مشاعره، فكيف يشاركه غيره من أهل السماء والأرض في تلك المشاعر التي ملأت السماءَ والأرض من القِدَم، فما بقي فيهما لغير مشاعره –فيما يحسب- موضعٌ لغير حُبَّه هو وحده. لكن العجيب أن هذه المشاعر نفسها، قد ملأت سماء وأرض مئات ملايين البشر ممّن حجّ هذا البيت الحرام!!!

مئات الملايين من البشر جاؤوا إلى البلد الحرام، فوسع أفئدتهم كلّهم وضمّها إليه، فلا ضاق عن شوقٍ لقاؤه، ولا عجز عن قديم العهد وفاؤه، ولا تفلَّتَ من بين ملايين القاصدين قلبٌ لم يرُضه بلذاذة الوصال، ولا ادعى أحدٌ منهم أنه قصّر في تحقيق مالهم فيه من مُنْتهى الآمال.

هذه عطاءات البلد الحرام.

ثم بعد أن يظنّ هؤلاء المحبّون أن دهشة اللقاء الأولى قد انقضت (وسيعلمون إذا انتهت مناسكهم وأرادوا الرجوع إلى بلدانهم أنهم ما زالوا في لفيف الدهشة الأولى ما برحوها)، عظّموا الله تعالى بالطواف حول البيت، تطوف قلوبهم بأجسادهم لا أجسادُهم بقلوبهم، فالطواف رَمْزُ التبعيّة: من طواف ما حول نواة الذرّة بها، إلى طواف الكواكب حول شمسها، إلى طواف المجموعات في أفلاكها، إلى طواف الملائكة حول عرش ربّها عز وجل.

إن إقرار العبد بأنه عَبْدٌ، وفرحه بعبوديّته، وإعلانه الانقياد المطلق لربّه بالطواف حول بيته الذي نصبه رمزاً للتوجُّه إليه= يدل على كمال محبّة العبد لربّه. ولا أحبَّ عَبْدٌ من استعبده إلا لكمال في هذا المستعبِد، جعل الاستعبادَ المكروهَ للنفس في العادة محبوباً لها لمّا كانت عبوديّةً لصاحب ذلك الكمال. والكمال المطلق لله تعالى وحده، ولذلك وَجَبَ على عبيده أن يفرحوا غاية الفرح بعبوديّتهم لله تعالى، وأن يحقّقوا هذه العبودية على أقصى مايستطيعون.

وممّا زادني شرفاً وفخراً

وكدت بأخمصي أطأ الثريّا

وقوعي تحت قولك يا عبادي

وأن صيرت أحمد لي نبيّا

وقوعي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيّا

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير