تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

عندها يحتاجون إلى درسٍ عميقٍ حتى يصحّ منهم التوكُّل على الله تعالى، فيخرجون إلى السعي بين الصفا والمروة، رَمْزُ اتّباع الأسباب والأخذ بها، الذي علّمته الأمُّ هاجَر للبشريّة، بعد أن علمتهم التوكّل بقولها لزوجها الخليل –عليه السلام-: "من أمرك أن تضعنا بأرض ليس فيها زرعٌ ولا ضرعٌ ولا أنيس ولا زاد ولا ماء، فقال –عليه السلام-: ربي أمرني، فقالت: فلن يضيّعنا"، نعم لقد قالتها بكل وضوح وسهولة؛ لأنها قالتها بكمال الإيمان وتمام التوكّل: "لن يضيعنا". ومع ذلك خرجت تسعى بحثاً عن الماء بين الصفا والمروة، وتكرّر السعي بينهما، لترفع مناراً للتوكّل الصحيح، وأنه التوكل الذي لا يُغْفِل الأسباب، بل الذي يبذل الأسباب كلّها، ولا يعجز ولا ييأس من تكرار الأخذ بها حتى ينجحَ، ويحقّقَ الله ُ تعالى له المطلوب.

إنه درسٌ عميق للتوكّل الصحيح، ودرسٌ عميقٌ في بيان الصلة بين الدين والدنيا، وشرحٌ عمليٌّ للعبادة بمعناها الكامل الشامل، وبيانٌ واضحٌ لفهم هذه الملّة للعلاقة بين العبد وربّه. لو وَعَتْ أمّتنا هذه الدروس، ولو فقهت الحِكمة التي بذلتها لها هذه الشعائر، لما كانت يوماً إلا الأمّة القائدة الرائدة!!!

إنه الدرس الذي يُطبّقه القاصدون للصَّفا، والذي لا يخلو في كل خطوةٍ من خطواته من الارتباط الكامل بالرب سبحانه؛ ولذلك يتوجّهون إلى البيت كلّما صعدوا الصفا والمروة بالتهليل والتكبير والدعاء. وهُمْ بهذا التوجُّه إلى البيت، وهذا التوجُّه المتكرّر في خضمِّ ذلك السعي المتكرّر، يعلنون استمرار الولاء، وكأنّهم يُقسمون على حفظ العهد الذي بينهم وبين هذا البيت، وأنهم لن ينسوه في خِضِمّ (السعي)، نعم لن ينسوه في خضم حياتهم ولَهَثِم في طلب المعاش، والذي لن تجد أصدق وصفاً عليه من أنه (سَعْىٌ) في طلبه.

إنّ هذا الاستحضار للصلة بين العبد وربّه، التي لا تكون فقط في العبادة المحضة في حياة المسلمين، بل تكون فيها وفي كُلّ لحظات اليوم والنهار، وفي ساعات الانشغال بالدنيا وإعمارها= هذا ما ميّزَ المسلمين عن غيرهم: ممّن فصلوا الدين عن الدنيا (كالغرب حاليّاً والأنظمة العلمانية)، وممّن جعلوا الدين بلا دنيا (كالغرب في القرون الوسطى، وكالفكر الصوفي في القرون المتأخّرة في العالم الإسلامي).

إنّ تلك الصلة الدائمة بين المسلم وربِّه، هي التي فسّرت العبادة في الإسلام بذلك التفسير الفذّ، الذي لا يعرفه الناس (كل الناس) إلا في الإسلام. إذ إن العبادة بمعناها الكامل الشامل في الإسلام هي تحقيق السعادة .. نعم .. وأنا أعني ما أقول: العبادة هي تحقيق السعادة؛ لأن الله تعالى الذي خلق البشر وركّبهم على ماهم عليه من العقول والرغبات والحاجات الجسديّة والنفسية، قد أنزل لهم دينه الذي لا دين له تعالى سواه، وهو دين الإسلام "إن الدين عند الله الإسلام"، "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين". والمقصود من الدين أن يكون نظاماً إلهيّاً للبشرية، به تتمّ علاقاتهم على الوجه الأكمل: بينهم وبين ربّهم، وبينهم وبين أبناء جنسهم من البشر، وبينهم وبين المخلوقات جميعاً. وإذا صحّت هذه العلاقة الشاملة، وتنظّمت التنظيم الإلهيّ الدقيق، القائم على العدل والإحسان= تحقّقت السعادة للبشريّة في الدنيا، فاستحقّت السعادة الأبديّة في الآخرة؛ لأنّها لم ترفض نعمة ربِّها العظمى، وهي دينّه وشريعتُه (ونظامُه)، ولم تكفرها، بل شكرت وآمنت، واتّبعت ذلك التنظيم الإلهي: الشامل للعبادات المحضَة ولكل شؤون الحياة؛ وبذلك جعل الإسلامُ حياة المسلم كلّها عبادة، وجعل القيام بهذه العبادة تحقيقاً للسعادة في الدنيا والآخرة: "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيّبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".

فما أجلّ هذا الدرس الذي أهداناه البلدُ الحرام، ولم يَرْضَ في توضحيه إلا أن يكون درساً عمليّاً، لنستفيده بكل وضوح!! فهل استفدناه بوضوح؟!!!

لكن .. هكذا تكون عطاءات البلد الحرام.

وهذه هي بعض عطاءات البلد الحرام لقاصديه من غير أهله، هذه بعض عطاءاته لهم، وبقي من عطاءاته الجليلة واللطيفة، ما لا يكاد يتسع له كتاب، ولا يطيقه كاتب.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير