المعارضة الراجحة أو المساوية , ولو قام الدليل علي الرجوع الضمير في قوله تعالي: (فإنه رجس) إلي جميع ما تقدم في الآية الكريمة من: الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير , لكان ذلك مفيداً لناجسة الدم المسفوح والميتة , ولكن لم يرد ما يفيد ذلك , بل النزاع كائن في رجوعه إلي الكل أو الأقرب , والظاهر الرجوع إلي الأقرب , وهو لحم الخنزير , لإفراد الضمير , ولهذا جزمنا هنا بنجاسة لحم الخنزير دون الدم الذي ليس بدم حيض , ومن رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا الضمير المذكور في الآية , فليرجع إلي ما ذكره أهل الأصول في الكلام علي القيد الواقع بعد جملة مشتملة علي أمور متعددة).
ولهذا لم يذكر الشوكاني في النجاسات من الدرر البهية الدم علي عمومه , وإنما دم الحيض فقط , وتبعه علي ذلك صديق حسن خان كما رأيت فيما نقلته عنه آنفاً.
وأما تعقب العلامة أحمد شاكر في تعليقه علي الروضة الندية بقوله: (هذا خطأ من المؤلف والشارح , فإن نجاسة دم الحيض ليست لأنه دم حيض , بل لمطلق الدم , والمتتبع للأحاديث يجد أنه كان مفهوماً أن الدم نجس , ولو لم يأت لفظ صريح بذلك , وقد كانوا يعرفون ما هو قذر نجس بالفطرة الطاهرة).
قلت: فهذا تعقب لا طائل تحته , لأنه ليس فيه إلا مجرد الدعوى , وإلا، فأين الدليل علي أن نجاسة دم الحيض ليس لأنه دم حيض بل لمطلق الدم؟ ولو كان هناك دليل علي هذا , لذكره هو نفسه , ولما خفي إن شاء الله تعالي علي الشوكاني وصديق خان وغيرهما.
ومما يؤيد ما ذكرته أن ابن حزم – علي سعة اطلاعه – لم يجد دليلاً علي نجاسة الدم مطلقاً , إلا حديثاً واحداً , وهو إنما يدل على نجاسة دم الحيض فقط , كما سيأتي بيانه , فلو كان عنده غيره , لأورده، كما هي عادته في استقصاء الأدلة , لا سيما ما كان منها مؤيداً لمذهبه.
وأما قول الشيخ أحمد شاكر: (والمتتبع للأحاديث يجد أنه كان مفهوماً أن الدم نجس) , فهو مجرد دعوى أيضاً , وشئ لم أشعر به البتة فيما وقفت عليه من الأحاديث , بل وجدت فيها ما يبطل هذه الدعوى , كما سبق في حديث الأنصاري وأثر ابن مسعود.
ومثل ذلك قوله: (وقد كانوا يعرفون ما هو قذر نجس بالفطرة الطاهرة) , فما علمنا أن للفطرة مدخلاً في معرفة النجاسات في عرف الشارع , ألا تري أن الشارع حكم بطهارة المني ونجاسة المذي، فهل هذا مما يمكن معرفته بالفطرة، وكذلك ذهب الجمهور إلي نجاسة الخمر وأنها تطهر إذا تخللت فهل هذا مما يمكن معرفته بالفطرة؟ اللهم لا , فلو أنه قال (ما هو قذر) ولم يزد , لكان مسلماً , والله تعالى ولي الهداية والتوفيق.
301 - (إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ [ثم توضئي لكل صلاة حتى يجئ ذلك الوقت] ثم صَلِّي).
أخرجه الشيخان وأبوعوانة وأصحاب السنن الأربعة ومالك , والدارقطني , والبيهقي , وأحمد من حديث عَائِشَةَ قَالَتْ إن فَاطِمَةُ بِنْتُ حُبَيْشٍ جاءت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إني امرأة أستحاض فلا أطهر , أفأدع الصلاة؟ قال: (فذكره).
والشاهد من الحديث قوله: (فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ) , فهو دليل آخر علي نجاسة دم الحيض.
ومن غرائب ابن حزم أنه ذهب إلي أن قوله فيه (الدم) علي العموم يشمل جميع الدماء من الإنسان والحيون فقال في المحلي: (وهذا عموم منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنوع الدم , ولا نبالي بالسؤال إذا كان جوابه عليه السلام قائماً بنفسه غير مردود بضمير إلى السؤال).
وقد رد عليه بعض الفضلاء , فقال في هامش النسخة المخطوطة من المحلي – نقلاً عن حاشية المطبوعة – ما نصه: (بل الأظهر أنه يريد دم الحيض , واللام للعهد الذكري الدال عليه ذكر الحيضة والسياق فهو كعود الضمير سواء , فلا يتم قوله: وهذا عموم ... إلخ).
قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه: (وهذا استدراك واضح صحيح).
قلت: فهذا يدلك علي أن الذين ذهبوا إلى القول بنجاسة الدم إطلاقاً ليس عندهم بذلك نقل صحيح صريح , فهذا ابن حزم يستدل عليه بمثل هذا الحديث , وفيه ما رأيت , واقتصاره عليه وحده يشعر اللبيب بأن القوم ليس عندهم غيره وإلا لذكره ابن حزم , وكذا غيره , فتأمل.
¥