وإذا تبين لنا ما سبق , فهل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تعد) نهي عن الأمور الثلاثة جميعها أم عن بعضها؟ ذلك ما أريد البحث فيه وتحقيق الكلام عليه فأقول:
أما الأمر الأول , فالظاهر أنه لا يدخل في النهي , لانه لو كان نهاه عنه , لأمره بإعادة الصلاة , لكونها خداجاً ناقصة الركعة , فإذا لم يأمره بذلك , دل على صحتها , وعلى عدم شمول النهي الاعتداد بالركعة بإدرك ركوعها.
وقول الصنعاني في سبل السلام: (لعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمره لأنه كان جاهلاً للحكم والجهل عذر) فبعيد جداً إذ قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسيء صلاته بإعادتها ثلاث مرات , مع أنه كان جاهلاً أيضاً فكيف يأمره بالإعادة وهو لم يفوت ركعة من صلاته , وإنما الاطمئنان فيها , لا يأمر أبا بكرة بإعادة الصلاة , وقد فوت على نفسه ركعة , لو كانت لا تدرك بالركوع؟ ثم كيف يعقل أن يكون ذلك منهياً , وقد فعله كبار الصحابة , كما تقدم في الحديث الذي قبله؟ فلذلك , فإننا نقطع أن هذا الأمر الأول لا يدخل في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تعد).
وأما الأمر الثاني , فلا نشك في دخوله في النهي , لما سبق ذكره من الرويات , ولأنه لا معارض له , بل هناك ما يشهد له وهو حديث أبي هريرة مرفوعاً: (إِذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ والوقار) , متفق عليه.
وأما الأمر الثالث , فهو موضع نظر وتأمل , وذلك لأن ظاهر رواية أبي داود هذه (أَيُّكُمْ الَّذِي رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ مَشَى إِلَى الصَّفِّ) , مع قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له (لا تعد) , يدل بإطلاقه على أنه قد يشمل هذا الأمر , وإن كان ليس نصاً في ذلك , لاحتمال أنه يعني شيئاً آخر غير هذا مما فعل , وليس يعني نهيه عن كل ما فعل , بدليل أنه لم يعن الأمر الأول كما سبق تقريره , فكذلك يحتمل أنه لم يعن هذا الأمر الثالث أيضاً.
وهذا وإن كان خلاف الظاهر , فإن العلماء كثيراً ما يضطرون لترك ما دل عليه ظاهر النص لمخالفته لنص آخر هو في دلالته نص قاطع , مثل ترك مفهوم النص لمنطوق نص آخر , وترك العام للخاص , ونحو ذلك.
وأنا أرى أن ما نحن فيه الآن من هذا القبيل , فإن ظاهر هذا الحديث من حيث شموله للركوع دون الصف مخالف لخصوص ما دل عليه حديث عبدالله بن الزبير دلالة صريحة قاطعة , وإذا كان الأمر كذلك , فلا بد حينئذ من ترجيح أحد الدليلين على الآخر , ولا يشك عالم أن النص الصريح أرجح عند التعارض من دلالة ظاهر نص ما , لأن هذا دلالته على وجه الاحتمال , بخلاف الذي قبله , وقد ذكروا في وجوه الترجيح بين الأحاديث أن يكون الحكم الذي تضمنه أحد الحديثين منطوقاً به , وما تضمنه الحديث الآخر يكون محتملاً , ومما لا شك فيه أيضاً أن دلالة هذا الحديث في هذه المسألة ليست قاطعة , بل محتملة , بخلاف دلالة حديث ابن الزبير المتقدم , فإن دلالته عليها قاطعة , فكان ذلك من أسباب ترجيحه على هذا الحديث.
وثمة أسباب أخرى تؤكد الترجيح المذكور:
أولاً: خطبة ابن الزبير بحديثه على المنبر في أكبر جمع يخطب عليهم في المسجد الحرام , وإعلانه عليه أن ذلك من السنة دون أن يعارضه أحد.
ثانياً: عمل كبار الصحابة به , كأبي بكر وابن مسعود وزيد بن ثابت – كما تقدم – وغيرهم , فذلك من المرجحات المعروفة في علم الأصول , بخلاف هذا الحديث , فإننا لا نعلم أن أحداً من الصحابة قال بما دل عليه ظاهره في هذه المسألة , فكان ذلك كله دليلاً قوياً على أن دلالته فيها مرجوحة , وأن حديث ابن الزبير هو الراجح في الدلالة عليها , والله أعلم.
وقد قال الصنعاني بعد قول ابن جريج في عقب هذا الحديث: (وقد رأيت عطاء يصنع ذلك).
¥