مكة أفضل من بيت المقدس، فأول الأمة خير من آخرها. وكما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى /الشام، كما أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. فخيار أهل الأرض في آخر الزمان ألزمهم مهاجر إبراهيم ـ عليه السلام ـ وهو بالشام. فالأمر مساسه كما هو الموجود والمعلوم.
وقد دل القرآن العظيم على بركة الشام في خمس آيات: قوله: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]، والله تعالى إنما أورث بني إسرائيل أرض الشام، وقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]، وقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]، وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81]، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} [سبأ: 18]. فهذه خمس آيات نصوص. و [البركة] تتناول البركة في الدين، والبركة في الدنيا. وكلاهما معلوم لا ريب فيه، فهذا من حيث الجملة والغالب.
وأما كثير من الناس فقد يكون مقامه في غير الشام أفضل له، كما تقدم. وكثير من أهل الشام لو خرجوا عنها إلى مكان يكونون فيه أطوع لله ولرسوله لكان أفضل لهم. وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي ـ رضي الله عنهما ـ يقول له: هلم إلى الأرض /المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الرجل عمله. وهو كما قال سلمان الفارسي؛ فإن مكة ـ حرسها الله تعالى ـ أشرف البقاع، وقد كانت في غربة الإسلام دار كفر وحرب يحرم المقام بها، وحرم بعد الهجرة أن يرجع إليها المهاجرون فيقيموا بها، وقد كانت الشام في زمن موسى ـ عليه السلام ـ قبل خروجه ببني إسرائيل دار الصابئة المشركين الجبابرة الفاسقين، وفيها قال تعالى لبني إسرائيل: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145].
فإن كون الأرض [دار كفر] أو [دار إسلام] أو [إيمان] أو [دار سلم] أو [حرب] أو [دار طاعة]، أو [معصية] أو [دار المؤمنين] أو [الفاسقين]، أوصاف عارضة، لا لازمة. فقد تنتقل من وصف إلى وصف، كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم، وكذلك بالعكس.
وأما الفضيلة الدائمة في كل وقت ومكان ففي الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} الآية [البقرة: 62]. وقال تعالى {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} الآية [البقرة: 111، 112]. وقال تعال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125]. وإسلام الوجه لله تعالى هو إخلاص القصد والعمل له والتوكل عليه. كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10].
ومنذ أقام الله حجته على أهل الأرض بخاتم رسله محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجب على أهل الأرض الإيمان به وطاعته، واتباع شريعته ومنهاجه. فأفضل الخلق أعلمهم، وأتبعهم لما جاء به: علما، وحالا، وقولا، وعملا، وهم أتقى الخلق. وأي مكان وعمل كان أعون للشخص على هذا المقصود كان أفضل في حقه، وإن كان الأفضل في حق غيره شيئاً آخر. ثم إذا فعل كل شخص ما هو أفضل في حقه، فإن تساوت الحسنات والمصالح التى حصلت له مع ما حصل للآخر فهما سواء، وإلا فإن أرجحهما في ذلك هو أفضلهما.
وهذه الأوقات يظهر فيها من النقص في خراب [المساجد الثلاثة] علما وإيماناً، ما يتبين به فضل كثير ممن بأقصى المغرب على أكثرهم. فلا ينبغى للرجل أن يلتفت إلى فضل البقعة في فضل أهلها مطلقا، بل يعطى كل ذي حق حقه، ولكن العبرة بفضل الإنسان في إيمانه وعمله الصالح والكلم الطيب، ثم قد يكون بعض البقاع أعون على بعض الأعمال كإعانة مكة حرسها الله تعالى على الطواف والصلاة المضعفة ونحو / ذلك. وقد يحصل في الأفضل معارض راجح يجعله مفضولا؛ مثل من يجاور بمكة مع السؤال والاستشراف، والبطالة عن كثير من الأعمال الصالحة، وكذلك من يطلب الإقامة بالشام لأجل حفظ ماله وحرمة نفسه، لا لأجل عمل صالح، فالأعمال بالنيات.
وهذا الحديث الشريف إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الهجرة فقال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه). قال ذلك بسبب أن رجلا كان قد هاجر يتزوج امرأة يقال لها: أم قيس، وكان يقال له: مهاجر أم قيس.
وإذا فضلت جملة على جملة لم يستلزم ذلك تفضيل الأفراد على الأفراد، كتفضيل القرن الثانى على الثالث، وتفضيل العرب على ما سواهم، وتفضيل قريش على ما سواهم. فهذا هذا، والله أعلم.
مجموع فتاوى بن تيمية
موقع نداء الايمان
¥