فهذا القول عندي هو الصحيح، ولولا حديث عبادة بن الصامت الذي أشرت إليه قبل قليل – وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة الصبح – لولا هذا لكان القول بأن قراءة الفاتحة لا تجب على المأموم في الصلاة الجهرية هو القول الراجح؛ لأن المستمع كالقارئ في حصول الأجر، ولهذا قال الله تعالى لموسى: (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)، مع أن الداعي موسى وحده، قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ). فهل ذكر الله لنا أن هارون دعا؟ فالجواب لا، ومع ذلك قال: (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا). قال العلماء في توجيه التثنية بعد الإفراد: إن موسى كان يدعو وهارون كان يؤمن.
وأما حديث أبي هريرة الذي فيه: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" (5) فلا يصح؛ لأنه مرسل كما قاله ابن كثير في مقدمة تفسيره، ثم إن هذا الحديث على إطلاقه لا يقول به من استدل به، فإن الذين استدلوا به بعضهم يقول: إن المأموم تجب عليه القراءة في الصلاة السرية فلا يأخذون به على الإطلاق.
فإن قيل: إذا كان الإمام لا يسكت فمتى يقرأ المأموم الفاتحة؟
فنقول: يقرأ الفاتحة والإمام يقرأ؛ لأن الصحابة كانوا يقرءون مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ، فقال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" (1).
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فلا شك أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (1)، وأن هذا النفي نفي للصحة لا نفي للكمال كما يدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" (2) وأن ذلك واجب في كل صلاة، وفي كل ركعة من الركعات لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته حين ذكر له ما يفعل بالركعة من قراءة وغيرها قال: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" (3).
وأنه لا فرق بين الإمام والمأموم والمنفرد لعموم الحديث، وأما الأحاديث الواردة في إخراج المأموم من ذلك فلا يصح الاستدلال بها إما لضعفها، وإما لضعف دلالتها على ذلك (4).
كما أن ظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن تكون الصلاة جهرية سمع فيها المأموم قراءة الإمام الفاتحة، أم سرية لعموم الحديث، ولحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فتفلتت عليه القراءة، فلما انصرف قال: "إني أراكم تقرءون وراء إمامكم" قال: قلنا يا رسول الله أي والله، قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". رواه أبو داود والترمذي (5). وفي لفظ: "فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن". رواه أبو داود والنسائي (6).
لكن من جاء والإمام راكع فإنها تسقط عنه في هذه الركعة التي أدرك ركوعها لما في صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "زادك الله حرصاً ولا تعد" (7). وفي رواية لأحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت نعل أبي بكرة وهو يحضر (أي يسعى عجلاً) يريد أن يدرك الركعة، فلما انصرف قال: "من الساعي"؟ قال أبو بكرة أنا. وعند الطبراني أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: خشيت أن تفوتني الركعة معك. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تعد" بفتح التاء وضم العين، وسكون الدال، من العود وهو يتضمن الدلالة على النهي عن السعي، وعن الركوع قبل الوصول إلى الصف، وعلى إدراك أبي بكرة للركعة. ووجه الدلالة منه على إدراكها ما يأتي:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بقضائها، ولو لم يدركها لأمره بقضائها، كما أمر المسيء في صلاته بإعادة صلاته حين لم يصلها بطمأنينة، ولم يتم ركوعها، ولا سجودها، ولو أمره بقضائها لنقل إلينا قطعاً لأنه من الشريعة، وقد تكفل الله بحفظها فلا يمكن أن يترك منها ثابت بدون نقل، فلما لم ينقل علم أنه لم يكن.
وهذه قاعدة هامة ينبغي مراعاتها.
2 - أن سعي أبي بكرة وركوعه قبل أن يصل إلى الصف دليل على أنه ليدرك الركعة بذلك، وقد صرح للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك في رواية الطبراني، وهو معلوم، وإن لم يصرح به إذ لا يمكن للعاقل أن يفعل مثل ذلك إلا لفائدة يحصل عليها وهي إدراك الركعة هنا، ولو لم يكن بينه وبين من فاته الركوع فرق في عدم الإدراك، لما كان يحسن أن يسعى ويركع قبل أن يصل إلى الصف.
3 - أنه لما كان يفهم من فعل أبي بكرة قصد إدراك الركعة ولم يبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يدركها مع قيام هذا المقتضى القوي للبيان كان دليلاً واضحاً على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكرة لما قصده، وأنه قد أدرك الركعة، وهذا أقوى دلالة من الإقرار المجرد الذي لم يسبق بما يقتضي وجوب الإنكار، لو كان العمل مما يجب إنكاره.
هذا من حيث الدليل الأثري على إدراك الركعة إذا أدرك المأموم إمامه راكعاً، وأنه تسقط عنه الفاتحة في هذه الركعة حينئذ.
أما من حيث الدليل النظري فنقول: الفاتحة قرآن واجب حال القيام، وقد سقط القيام عنه حينئذ لوجوب متابعة الإمام، فسقط ما كان واجباً فيه؛ لسقوط محله، كما يسقط التشهد الأول عن المأموم إذا أدرك إمامه في الركعة الثانية من الرباعية، ويزيده في الركعة الأولى مع أنه لو تعمد ذلك في حال غير متابعة الإمام لبطلت صلاته. قال ذلك كاتبه محمد الصالح العثيمين في 29/ 4/1398هـ.
471
¥