ولَدٌ عاقٌّ بوالده، لا يمتثل أمره ولا ينتهي عن نهيه، مبارزٌ له بما يكره، سمع مرة مَن يسب أباه فعاقبه، فَعَلِم الوالد بذلك فقال لولده: (قد علمت ما فعلت بمن سبني ولكنني في شك من حبك لي لأنك أنت تبارزني بما يسخطني، فكم أمرتك ولم تمتثل أمري؟! .. وكم نهيتك ولم تترك نهيي؟!) .. هذا المثال صحيح حتى في أمور الدنيا المحضة فكيف بما نحن فيه من أمر الدين وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟!.
ومثال آخر لرجل له غنم وكان يحلبها ويشوب لبنها بالماء فيبيعه على الناس، وقد استمر على هذا الغش فجاء مرةً الوادي فغرَّق الغنمَ كلَّها وقيل له: (إنَّ قطَرَات الماء التي كنت تشوب بها اللبن وتغش الناس قد اجتمعت وغرّقت الغنم)، فلو قيل لنا: (إن استهانتكم بالصور التي ملأت بلدانكم وقد حرّمها نبيكم تجمّع شؤمها فصار تصوير نبيكم والسخرية به) فماذا نقول؟! .. مع أن هذه واحدة من عظائم أعظم منها لا تحصى ولا تُعدّ!.
وتأمَّل قصة أبي طالب - عمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وما لاقاه من أذى قومه من أجل حُبِّه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحمايته له ونصرته له، فلم يكن ذلك كافياً لحصول رضى الإله - عز وجل - عنه حيث لم يَتَّبِع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومات على الكفر، ونُهِي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاستغفار له [17]!.
وختاماً: فإن جملة القول وفصل الخطاب أنَّ أعظم النصرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما تكون باتباعه وأن أعظم المقاطعة مقاطعة الشيطان الذي يجري منا مجرى الدم لِيُضلّنا ويصدنا عن اتباعه - صلى الله عليه وسلم - الذي لم يتجرأ عليه الكفار هذه الجرأة الخبيثة إلا لَمَّا تنكّرنا له - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك فتحنا لهم الأبواب وكسّرنا الأقفال .. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر)؟! .. وكيف نستغرب أن يتجرأ الكفار على ديننا ونبينا - صلى الله عليه وسلم - وعندنا مَن يسبّ الله والرسولَ والدينَ ولم يحصل لهم شيء؟!!.
ولقد فعَلْنا العظائمَ باستهانتنا بأوامره - صلى الله عليه وسلم - ونواهيه، وليس مَن يعلم كمن لا يعلم، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها!)، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟!، قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينْزِعَنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْن!)، فقال قائل: يا رسول الله .. وما الوهن؟!، قال: (حُبُّ الدنيا وكراهية الموت) رواه أحمد [18] وأبو داود [19] وغيرهم.
فتأمل قوله: (ولينْزِعَنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم)، فلو رجعنا لديننا وتمسكنا حقيقة بنبينا وما جاء به - صلى الله عليه وسلم - لَهَابُونا ..
فَنفْسَك لُمْ ولا تلُم المطاياَ!
والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلِّم تسليماً كثيراً.
عبد الكريم بن صالح الحميد
بُريدة - غُرَّةُ شَهْرِ اللهِ الْمُحرَّم / 1427هـ
ـــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــ
(1) سورة المجادلة، من الآية: 19.
(2) سورة الأعراف، من الآية: 16.
(3) سورة النساء، من الآية: 119.
(4) سورة ص، من الآية: 82.
(5) سورة فاطر، آية: 6.
(6) سورة آل عمران، آية: 31.
(7) تفسير ابن كثير، 1/ 358.
(8) برقم (3359).
(9) يعني في صِقاله ولَمعان جماله. أنظر: (فتح الباري، 6/ 573) و (تحفة الأحوذي، 10/ 80).
(10) برقم (2344).
(11) في " شعب الإيمان " برقم (1420).
(12) قال ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية، 8/ 444) عن قولها (صحَل): (وهو بَحَّة يسيرة وهي أحلى في الصوت من أن يكون حاداً).
(13) والكثاثة هي كثرة الشَّعر، وقد ورد - أيضاً - أنه كث اللحية عن علي بن أبي طالب وابن مسعود والبراء بن عازب - رضي الله عنهم -.
(14) قال ابن كثير في تاريخه (8/ 444 – 445) عن ابن عبيد أنه قال: (ولا يُعرف هذا في صِفة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في هذا الحديث، والمعروف في صفته - عليه الصلاة والسلام - أنه أبلج الحاجبين) انتهى، والله أعلم.
(15) باختصار يسير من (زاد المعاد، 2/ 53 – 54) مع إضافات وإيضاحات من (البداية والنهاية لابن كثير 8/ 442 - 445) و (لسان العرب لابن منظور، 3/ 150، 389).
(16) أخرج حديث " أم معبد " الطبراني في " المعجم الكبير " برقم (3605)، وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " برقم (3485)، واللالكائي في " اعتقاد أهل السنة " برقم (1437)، والحاكم في " مستدركه " برقم (4274) .. وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه).
(17) كما في قوله - سبحانه وتعالى -: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) " سورة التوبة، الآية: 113 ".
(18) في " مسنده " برقم (22450).
(19) برقم (4297).
¥