فَصْلٌ
وبقي هنا أُمورٌ، مُبَشِّرَاتٌ وتنبيهاتٌ:
إحداها: قال شيخ الإسلام في «الصارم المسلول» (ص117): (وإِنَّ الله منتقم لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ممن طعن عليه وسَبَّهُ، ومظهرٌ لدينه ولكذب الكاذب، إذ لم يُمْكِنِ النَّاسُ أَنْ يُقيموا عليه الحدَّ.
ونظير هذا: ما حدَّثناه أعدادٌ من المسلمين العدول، أهل الفقه والخبرة عمّا جرَّبوه مَرَّاتٍ مُتعدِّدةٍ في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: «كنا نحن نحصر الحصن، أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر، وهو ممتنعٌ علينا، حتى نكادَ نيأسُ منه، إِذْ تعرَّضَ أهلُه لسَبِّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، والوقيعة في عرضه، فَعُجِّلْنَا فَتْحَهُ، وتَيَسَّرَ ولم يَكَدْ يتأخرْ إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك، ثم يُفْتَحُ المكانُ عَنْوَةً، ويكون فيهم ملحمة عظيمة».
قالوا: «حتى إِنْ كُنَّا لنتباشرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوه فيه».
وهكذا حدَّثني بَعْضُ أصحابنا الثقات: أَنَّ المسلمين من أهل الغرب حالهم مع النصارى كذلك.
ومِنْ سُنَّةِ الله: أَنْ يُعَذِّبَ أعداءَه تارةً بعذاب من عنده، وتارةً بأيدي عباده المؤمنين).
قال (ص164): (ومِنْ سُنَّةِ الله: أَنَّ مَنْ لم يُمْكِنِ المؤمنون أَنْ يُعذِّبوه من الذين يؤذون الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ويكفيه إيّاه. كما قدَّمنا بَعْضَ ذلك في قصة الكاتب المفتري، وكما قال سبحانه (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الُمشْرِكِيْنَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الُمسْتَهْزِئِيْنَ).
والقِصَّةُ في إهلاك الله واحدا واحدا من هؤلاء المستهزئين معروفة، قد ذكرها أهلُ السِّيَرِ والتفسير) اهـ.
الثّانية: أَنَّ مع ما في طعن هؤلاء المحادّين من شَرٍّ وإغاظة للمؤمنين، إلا أَنَّ فيه خيرا عظيما، فقد أظهر هذا أمورًا خافيةً على كثير من الناس لعدم تدبّرِهم كتابَ رَبِّهم جلَّ وعلا.
ومِنْ تلك الأمور الحسنة:
1 - أنهم عرفوا حقيقة دعاوى كثير من الأدعياء لمحبَّة الله ورسولِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، الواقفين مواقف الرّيبة من هذه الجريمة، إمّا بالسّكوت، أو التّبرير، أو التّهوين.
2 - وعرفوا عداءَ أولئك الصليبين للإسلام وأهله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، بعد أَنْ عَمِيَتْ أعينُ كثيرٍ من الناس عن ذلك، بتزيين أهل الأهواء والنفاق لأولئك. وإلا فإنَّ الله قد أخبر في كتابه مُحذِّرًا عبادَه المؤمنين منهم فقال: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
وقال: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).
وقال: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ).
3 - وعرفوا قوَّتهم، وكيف استطاعوا النيلَ من أعدائهم وإذلالهم، وتشتيتَ كلمتهم وتفريق أمرهم.
الثّالثة: أَنَّ كُلَّ مُتكلِّمٍ بلسان الدّين أو أهله، بمسامحة أولئك الجناة المحادّين، أو مسامحة دولتِهم إِن اعتذرتْ أو اعتذرتْ صحيفتُها، ونشرتْ ذلك في كبرى الصحف أو في غيرها من وسائل الإعلام: فهو إِمَّا منافق، وإمَّا جاهلٌ مُركَّب.
فالأول: معروفٌ سِرُّ سعيِه بالمسامحة!
¥