وقد أجاب بعض من لا فقه عنده عن عدم أمره صلى الله عليه وسلم إياها بالتغطية بقوله:
" لو أمرها لأصبح واجباً أن تغطي وجهها، ولم ندَّع هذا"!
انظر " حجاب العدوي" (ص99).
فأقول: من رأيك الذي ألّفت " حجابك " من أجل تأييده والرد على مخالفك، أن الواجب على المرأة ستره، فهل تعني بقولك المذكور انه لا يجب الستر على المحرمة؟! لئن قلت ذلك- بل قد صرحت بذلك (ص79) - فقد جئت ببدع من القول خالفت به سبيل المؤمنين، فإننا لا نعلم أحداً من أهل العلم قال بوجوب الستر كأصل، مع عدم الوجوب على المحرمة ولو عند الفتنة! وإلا لما احتاج متبوعوك إلى بطلان قولهم بالوجوب، وقد سبق بيان بطلان تلك الوجوه في الصفحة (41 - 43و135 - 136).
وعم هذه المخالفة للعلماء جميعاً، فقد تناقض مع نفسه مرة أخرى، فإنه مع ذلك جزم (81) بأنه يلزم الأمة أن تستر وجهها إن خشيت الفتنة سداً للذريعة، والأصل عنده أنه ليس ذلك بلازم عليها، وهنا لم يقل بلزوم ذلك على الحرة مع تحقق الخشية، والأصل أن ذلك واجب عليها عنده! أليس هذا من التلون في دين الله الذي نهى عنه أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه؟! تخلصاً من دلالة الحديث الظاهرة التي نص كبار العلماء، وجروا على ذلك حنى اليوم كما تقدم تحقيقه! والله المستعان.
وخلاصة القول: إن الفتنة بالنساء كانت في زمن نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك شرع الله عز وجل من الأحكام للجنسين-سداً للذريعة-ما سبقت الإشارة إليه، فلو شاء الله تعالى أن يوجب على النساء أن يسترن وجوههن أمام الأجانب، لفعل سداً للذريعة أيضاً، {وما كان ربك نسيبا} (مريم: 64)، ولأوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر المرأة الخثعمية أن تستر وجهها فإن هذا هو وقت البيان كما تقدم، ولكنه على خلاف ذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس في ذلك المشهد العظيم، أن سد الذريعة هنا لا يكون بتحريم ما أحل الله للنساء أن يُسفرن عن وجوههن إن شئن، وإنما بتطبيق قاعدة: {… يغضّوا من أبصارهم}، وذلك بصرفه نظر الفضل عن المرأة.
وفي نقدي أنه لا فرق بين هؤلاء المقلدة الموجبين على النساء ستر وجوههن –سدّاً للذريعة كما زعموا-وبين ما لو قال قائل: يجب على الرجال أن يستروا وجوههم- كما هو شأن الملثمين في بعض البلاد- كي لا تفتتن النساء بالنظر إليهم سداً للذريعة أيضاً! فهذا كهذا، ومن فرَّق، فقد تناقض وتعصّب للرجال على النساء، إذ إنهم مشتركون جميعاً في وجوب غضِّ النظر، فمن زاد على الآخر حكماً جديداً بغير برهان من الله ورسوله، فقد تعدَّى وظلم، {والله لا يحب الظالمين} (آل عمران: 57).
وهنا أستحضر بيتاً من الشعر كأن المرأة فقيهة تتمثل به فتقول:
غيري جنى وأنا المعذّب فيكم * فكأنني سبَّابة المتندم!
ولعل من نافعة القول أن الذكر: أن جلَّ هذا البحث إنما هو مع أولئك المقلدة الذين خالفوا أئمتهم في هذه المسألة –والكتاب والسنة معهم- والذين يرى المقلدون وجوب تقليدهم، لأن أقوالهم بالنسبة إلى المقلدين كأدلة الكتاب والسنة بالنسبة للمجتهدين، فكما لا يجوز لهؤلاء إلا اتباع الكتاب والسنة، فكذلك أولئك لا يجوز لهم إلا تقليدهم، هكذا يقولون، وهذا مبلغ علمهم، وأما هنا فقد أجمعوا على مخالفة الكتاب والسنة من جهة، وأقوال أئمتهم من جهة أخرى! وزادوا على ذلك –ضِغثاً على إبّالة – فقلدوا من لا يجوز عندهم تقليدهم، لأنهم مقلدون مثلهم، ومن متأخريهم كما تقدم ن والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم، كما قال ابن القيم في " إعلام الموقعين" (1/ 51و2/ 293)، وحكى أبو الحسن السندي في أول " حاشيته المرغيناني ابن ماجه" عن السيوطي: إن المقلد لا يسمى عالماً. ولذلك سماه المرغيناني الحنفي في " شرح الهداية" (6/ 359) بـ "الجاهل"، وحكى الخلاف في جواز توليته القضاء، ونقل ابن الهمام في "فتح التقدير" عن الإمام محمد: إن المقلد لا يجوز أن يكون قاضياً! وما أحسن المثال الذي ضربه الإمام الشافعي للمقلِّد حين قال:
"مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه افعى تلدغه وهو لا يدري". رواه البيهقي في "المدخل" (210 - 211) بسند صحيح عنه. ومن الحجة لهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم (وفي رواية: برأيهم)، فضلوا وأضلوا". متفق عليه، واللفظ والرواية الأخرى للبخاري (رقم 68 - مختصر البخاري)، وراجع له " فتح الباري" (13/ 282 - 290) إن شئت، فقد أفاض في شرحه وبيان فوائده، وأن المراد بقوله:" رؤوساً جهالاً": إنما هم المقلدة، والواقع في أكثر البلاد الإسلامية مصداق هذا الحديث الصحيح، ومنه ما نحن فيه. والله المستعان.
ثم إنني أقول:
لو أن أولئك المقلدة كانوا على شيء من العلم، لما أوجبوا على النساء أن يسترن وجوههن خشية أن يفتتن الرجال بهن، ومع قولهم: إن الأصل جواز الإسفار. ولقالوا: إذا خشيت المرأة أن يصيبها مكروه من بعض الرجال الأشرار بسبب إسفارها، فعليها أن لا تسفر على سداً للذريعة. ولو أنهم قالوا هذا لكان فقهاً مقبولاً، وأما أن يفرض ذلك على النساء عامة في كل زمان ومكان، فهو تشريع ما أنزل الله به من سلطان، فلا جرم أنه لم يقل به أحد من علماء الإسلام، بل قالوا نقيض ذلك، كما قدمنا عن القاضي عياض والنووي وابن مفلح وغيرهم من الأعلام.
¥