فهذا محمول على النشرة المشروعة، ومن حمله على النشرة السحرية فقد غلط بدليل أن الإمام أحمد عندما سئل عمن يطلق السحر عن المسحور فقال: قد رخص فيه بعض الناس 0 فقيل له إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه؟ فنفض يده وقال: لا أدري ما هذا؟ قيل له: أفترى أن يؤتى مثل هذا؟ قال: لا أدري ما هذا؟ وهذا صريح في النهي عن النشرة على الوجه المكروه 0 وكيف يجيزه؟ وهو الذي روى الحديث " إنها من عمل الشيطان " ولكن لما كان لفظ النشرة مشتركا بين الجائزة والممنوعة ورأوه قد أجاز النشرة ظنوا أنه قد أجاز التي من عمل الشيطان، وحاشاه من ذلك) (الكافي – 4/ 166 – المغني – 8/ 156، 157) 0
قال الشيخ سليمان بن عبدالله - رحمه الله - معقبا على الكلام آنف الذكر: (فهذا الكلام من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم هل هو نوع من السحر أو لا؟ فأما أن يكون ابن المسيب يفتي بجواز قصد الساحر الكافر المأمور بقتله ليعمل السحر، فلا يظن به ذلك، حاشاه منه ويدل على ذلك قوله: إنما يريدون به الإصلاح، فأي صلاح في السحر؟ بل كله فساد وكفر والله أعلم) (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد – ص 418) 0
وقال ابن القيم – رحمه الله – في تعقيبه على ذلك: (ولو صح عنه أنه أراد بذلك حل السحر بسحر مثله فهو اجتهاد منه لا يوافق عليه لمخالفته للنص في تحريم الذهاب إلى الكهان وأضرابهم، أما ما جاء عن الحسن من كراهية النشرة فهذا يحمل على النشرة الجاهلية التي هي من عمل الشيطان) (أعلام الموقعين – 4/ 396) 0
قال ابن الجوزي – رحمه الله -: (النشرة: إطلاق السحر عن المسحور ولا يكاد يقدر على ذلك إلا من يعرف السحر، ومع هذا فلا بأس بذلك) (النهاية في غريب الحديث – 2/ 408) 0
قال البيهقي: (إن رقى بما لا يعرف، أو على ما كان من أمر الجاهلية من إضافة العافية إلى الرقى لم يجز، وإن بكتاب الله، أو بما يعرف من ذكر الله متبركاً به وهو يرى نزول الشفاء من الله تعالى فلا بأس به 0
ثم قال: والقول فيما يكره من النشرة وما لا يكره كالقول في الرقية) (السنن الكبرى – 9/ 351) 0
قال صاحبا كتاب " السحر والسحرة ": (ويمكن الجمع بين تلك الأقوال بأن تحمل النشرة التي من عمل الشيطان على التي فيها كفر أو شرك أو لا تعرف، أما النشرة والرقية بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالكلام الطيب المعروف، ونحوها من المباحات فلا شيء فيه، ولا شك أن السحر داء من الأدواء، وعلاجه بالنشرة الحلال لا شيء فيه 0
إذن فالقول الصحيح أن الرقية بكتاب الله أو بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بكلام طيب معروف جائزة ولا شيء فيها) (السحر والسحرة – باختصار – 98، 99) 0
خلاصة بحث المسألة:
بعد استعراض أقوال أهل العلم في النشرة يتضح جليا أن النشرة بمفهومها العام - وهو حل السحر بسحر مثله - لا تجوز مطلقا، حتى لو صدرت من بعض رجالات أهل العلم قديما وحديثا لأن كلام الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مقدمة على كل شيء، والأدلة النقلية الصريحة جاءت لتؤكد ذلك بقوة دون أن تدع مجالا لأحد أن يدلو بدلوه في هذا الموضوع الخطير، ويكفي أن طرق أوكار السحرة والمشعوذين فيه مخالفة صريحة لعقيدة المسلم أولا، ولما يترتب عليها من مفسدة عظيمة على الأمة الإسلامية ثانيا، وفتح هذا الباب يعني الترويج للبضاعة العفنة التي يتاجر بها السحرة والكهنة، ولا بد من تقوى الله سبحانه وتعالى بخصوص هذه المسألة، وإرشاد العامة وتوجيههم بتوجيهات الشريعة، وتعليمهم مدى خطورة انتهاج ذلك وآثاره السيئة على الفرد والأسرة والمجتمع، وتثقيفهم بالثقافة الإسلامية التي وضعت قضية السحر في حجمها الطبيعي، وتناولتها بما تستحقه من الإيضاح والتبصير 00 تعريفا وتأثيراً وتشخيصاً ووقاية، وتعرضت له من جانب العرض وجانب الطلب، فحاربت السحرة، وجعلت حد الساحر القتل، كما هو الراجح من أقوال أهل العلم، وعلى ذلك فلا بد من إدراك أن الاستشفاء لا يكون بالمحرم، إنما باتخاذ الأسباب والوسائل الشرعية والحسية المتاحة لذلك 0
وقد دلت النصوص الصريحة الواضحة على هذا المفهوم، وأن الاستشفاء لا يكون بالمحرم كالخمر وغيره، قال ابن القيم - رحمه الله -:
¥