يعني ولا يستلزم بوجه من الوجوه القول بقدم العالم وأزليته، بل هو يفرق في عامة كتبه بين قضيتين رئيسيتين في الموضوع، هما النوع والآحاد، ويرى أهمية التفريق بين دوام النوع وحدوث الأفراد والأعيان، وأن التفريق بينهما هو الذي نطق به الكتاب والسنة والآثار، وأن الرب –تعالى- أوجد كل حادث بعد أن لم يكن موجداً له، وأن كل ما سواه فهو حادث بعد أن لم يكن حادثاً، وذكر –رحمه الله- أن أهل الحديث ومن وافقهم لا يجعلون النوع حادثاً بل قديماً، ويفرقون بين حدوث النوع وحدوث الفرد من أفراده، كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه، فإن نعيم الجنة يدوم نوعه ولا يدوم كل واحد من الأعيان الفانية فيه.
والقول بقدم النوع لا ينفيه شرع ولا عقل، بل هو من لوازم كماله كما قاله سبحانه: "أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون" [النحل:17].
والخلق لا يزالون معه وليس في كونهم لا يزالون معه في المستقبل ما ينافي كماله، والعقل يفرق بين كون الفاعل يفعل شيئاً بعد شيء دائماً، وبين آحاد الفعل والكلام.
وكون الفاعل لم يزل يفعل فعلاً بعد فعل فهذا من كمال الفاعل.
وأختم ذلك بهذه الكلمة لشيخ الإسلام، حيث يقول: "كل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن، وهو سبحانه المختص بالقدم والأزلية، فليس في مفعولاته قديم وإن كان هو لم يزل فاعلاً، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ليس في المفعولات قديم البتة، بل لا قديم إلا هو سبحانه، وهو وحده الخالق لكل ما سواه، وكل ما سواه مخلوق، كما قال سبحانه: "الله خالق كل شيء" [الزمر:62]، انظر درء تعارض العقل والنقل (8/ 272)، وبهذا يتبين أن شيخ الإسلام يقرر حدوث العالم. وأن قدم النوع لا يستلزم قدم العالم ما دام الفعل مسبوقاً بفاعله كما عليه السلف والأئمة، ولمزيد من ذلك راجع كتاب الصفدية (1/ 65، 130و2/ 49، 140)، ودرء التعارض (1/ 123 - 125، 2/ 148،206). (3/ 51 - 52 - 4/ 160) (8/ 289)، ومجموع الفتاوى (18/ 227) وما بعدها، ومنهاج السنة (1/ 160، 208) (2/ 138)، وانظر دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ص (286).
ثالثاً: فيما يتعلق بمسألة فناء النار فهي أيضاً من المسائل التي شنّع فيها على شيخ الإسلام، واتهم أنه كان يقول بقول الجهمية في فناء النار، حيث له مقالات تفهم أنه يميل إلى هذا القول، ولهذا انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الذين يقطعون بأنه يقول بفناء النار، وهذا قول عامة مناوئيه، وبعض من يوافقه في الاعتقاد.
القسم الثاني: الذين ينفون عنه هذا القول مطلقاً، وأنه يرى خلودها كالجنة اعتماداً على أن هذا القول هو قول السلف وهو يقول به في عامة كتبه، بل هو من أكبر شراح عقيدة السلف، وهؤلاء اعتمدوا على نصوصه الصريحة في عامة كتبه التي تثبت أبدية النار.
القسم الثالث: القائلون بأن ابن تيمية يميل إلى القول بفناء النار لكنه لا يصرح بذلك، حيث وقفوا على بعض أقوال له تشعر بأنه يرتضي هذا القول، وهذه الأقوال جميعها مفهومة من كلام الشيخ في كتاب له بعنوان "الرد على من قال بفناء الجنة والنار".
والتحقيق -إن شاء الله- أن شيخ الإسلام يقول بقول جمهور السلف والأئمة من أبدية النار وعدم فنائها، وهذا هو الذي صرح به في عامة كتبه، بل ونقل اتفاق السلف على ذلك كما في المجموع (18/ 307)، وبيان تلبيس الجهمية (1/ 581)، وفي منهاج السنة (1/ 146)، ونقل كلام الأشعري في المقالات من اتفاق أهل الإسلام جميعاً على أن الجنة والنار لا يزالان، وذكره مقراً له ومؤيداً. انظر درء التعارض (2/ 357)، وفي مواضع كثيرة من الفتاوى يحكي هذا القول وينصره (2/ 428)، (16/ 197).
ثم إن النصوص التي يستدل بها القائلون بأنه يقول بفناء النار هي من كتاب واحد، وهو (الرد على من قال بفناء الجنة والنار)، وهو ليس من الكتب المشهورة لشيخ الإسلام والمحققون من أهل العلم لهم عليه ملاحظات علمية ومنهجية ليس هذا موضع ذكرها، وابن القيم –رحمه الله- قد نقل أغلب ما في هذا الكتاب في كتابه (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) ولم يصرح بأن ذلك هو رأي شيخ الإسلام، ولو كان قولاً له لصرح به، ثم إن الكتاب ظاهر من عبارته أنه قائم على حكاية قول القائلين بفناء النار على هيئة مناظرة وحوار، فذكر أدلة الفريقين، وحين ذكر أدلة القائلين بفناء النار عرضها عرضاً يوحي بأنه منهم، لكنها قوة عرض
¥