تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

لكن العلامة ابن حجر تعقب رأي النووي هذا وقال عنه: "إن هذا الذي رده الشيخ يعني النووي تقدم اعتباره عن محمد بن سيرين إمام المعبرين، وإن الذي قاله القاضي أي عياض هو توسط حسن".

والرأي الذي انتهيت إليه واطمأنت إليه نفسي في فهم المراد بهذا الحديث النبوي أنه خاص بعصر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعصر صحابته الكرام، وليس له امتداد في الزمان ولا في الأشخاص. وحينئذ يكون قد انتهى حكمه بوفاة أخر صحابي من الصحابة الكرام الذين عايشوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو شاهده أحدهم ولو مرة واحدة، وتعرف صورته الحقيقة.

فبعد وفاة كل من كانوا يعرفون هيئته وصورته الحقيقة عن مشاهدة وعيان في حياته صلى الله عليه وآله وسلم انتهى حكم هذا الحديث، ولم يعد ينطبق على من يرى من أهل العصور اللاحقة في منامه شخصًا يقوم في روعه هو، أو يقول له الشخص المرئي نفسه، أو يقال له: إنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يشمل الحديث النبوي المذكور شيئا من هذه الرؤى التي يراها أحد من الأجيال اللاحقة بعد وفاة جميع الذين كانوا يعرفون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصورته وهيئته الحقيقية عن مشاهدة وعيان. وما الرؤى التي يرى فيها أحد من الأجيال اللاحقة في منامه شخصًا يقال له إنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا كسائر الرؤى التي يرى فيها ما يرى من أشخاص أو أشياء أو أحداث ولا تفترق عن هذه الرؤى العادية في شيء.

ذلك لأن الحديث النبوي المذكور قد اتفقت جميع رواياته التي أوردناها على أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما قال: "من رآني" أو قال: "من رآني في المنام". وضمير المتكلم في قوله: "من رآني" عائد إلى الرسول، أي إلى شخصه بذاته وهيئته، أي بصورته الحقيقية التي كان عليها. وهذا لا يتحقق إلا لمن يعرف صورته الحقيقة. وهم أصحابه الكرام الذين عايشوه، أو رآه أحدهم ولو مرة واحدة. فأما من لم يره ولا يعرف صورته الحقيقة فلا يمكن أن يقال: إنه رأى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في منامه، لأنه لا يعرفه بصورته وهيئته الحقيقة، فكيف يصح أن يقال إنه رآه. بل كل منا في مثل هذه الرؤى أن أصحابها رأوا شخصًا لا يعرفونه، قيل لهم، أو قال هو لهم، أو قام في روعهم أنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا كله من قبيل الأحلام العادية، التي قد يتمثل فيها الشيطان للنائم في صورة شخص ما غير شخصية الرسول الحقيقة، ويوحي الشيطان فيها للنائم أو يقول له إن ذلك الشخص الذي رآه هو الرسول. فهذه الرؤى كلها لا ينطبق عليها الحديث الذي هو محل البحث، والذي خاطب به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ صحابته الكرام الذين يعرفونه شخصيًا، بقوله لهم "من رآني" أو "من رآني في المنام". إذ لا يستطيع أحد بعدهم أن يزعم أنه رأى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصورته الحقيقة، وهو لم يعرفه!!

هذا التفسير وهذا التعليل مستفاد بوضوح من التعبير بياء المتكلم في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من رآني" وهو الصيغة الواردة في جميع الروايات، وهو واضح كل الوضوح لمن يحسنون فهم النصوص، فهو مقتضي التعبير بياء المتكلم.

ثم إذا نظرنا إلى التعليل الوارد أيضا في نص الحديث بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "فإن الشيطان لا يتمثل بي" وفي رواية صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه: "فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي" وهكذا ورد فيها التعبير بلفظ: أن يتمثل في صورتي). أقول: إذا نظرنا إلى هذا التعليل الوارد في نص الحديث نفسه والتعابير التي جاءت فيه: "أن يتمثل بي" "أن يتمثل في صورتي" يزداد المعنى الذي ذكرته وضوحًا، وهو أن الحديث مقصور على من يرى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهيئته وصورت الحقيقية التي يعرفها من قبل، كما يدل عليه ضمير المتكلم في قوله "رآني" وقوله: "أن يتمثل بي" وهذا كان كافيًا للدلالة على هذا المعنى، وهو أن هذا الحكم مخصوص بمن يرى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهيئته الحقيقية التي يعرفه بها من قبل، ولكن جاءت رواية مسلم عن جابر رضي الله عنه بلفظ "أن يتمثل في صورتي" حاسمة في الموضوع، ونافية لكل احتمال آخر. فمن الذي يعرف صورته وهيئته الحقيقية عليه الصلاة والسلام إلا من لقبه؟

ولا ننكر أن أن من الناس قومًا صالحين صادقين يرون في المنام أنهم رأوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صورة قد تتفق وقد تختلف مع صفاته وحليته المنقولة المدونة، ولكنها – أي رؤياهم – لا تدخل تحت هذا الحديث الذي انقضى حكمه، وإنما هي رؤيا من الرؤى العادية، وتعبر كما يعبر غيرها.

هذا، وقد طرح علي سؤال يقول: إذا صح هذا الفهم في هذا الحديث، واعتبر حكمه موقوتًا ومنتهيًا بوفاة آخر صحابي ممن عرفوا صورة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهيئته الحقيقية، فماذا تقول إذن بالرؤيا الصالحة التي ثبت في السنة الصحيحة أنها تكون صادقة، وورد عند الترمذي أن الرؤيا الصالحة بشرى من الله، وروي عن عبادة ابن الصامت أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير