قالوا: هناك محددات للخريطة الذهنية عند كل فرد وسموها المرشحات، وهي الحواس واللغة والمعتقدات والقيم والبرامج العالية. ولابد للمعلومات الواردة من العالم من المرور بها فالحواس محدودة واللغة لها عيوب تجعل الإنسان يفهم غير المقصود، والمعتقدات والقيم تجعل الإنسان يتقبل المعلومات التي توافق معتقداته وقيمه، والبرامج العالية هي طريقة الإنسان في معالجة المعلومات والتعامل معها، كل هذه الأمور تتضافر لتحدد الخريطة الذهنية عند الإنسان ..
فالفرضية الأولى: الخريطة ليست هي الواقع.
وأقول: إن درجة توكيد المعارف الإنسانية تتفاوت ولكن هل نستطيع أن نحصل على معرفة يقينية؟ وكيف؟
إن الإنسان يمتلك من الأدوات المجردة (العقل وأوّليّاته البسيطة أي البدهيات) والحواس ما يمكنه من الحصول على معرفة يقينية، وإليكم المثال الموضح التالي: يرى إنسان خوخة ذات لون بنفسجي فإذا تيقّنَ وجودَها بالبصر واللمس مثلاً وتيقّن بأن ما يراه وما يلمسه ليس خداع حواس، فيكون قد حصل على معرفة يقينية بوجودها. وربما يرى إنسان آخر الخوخة ذات لون أحمر قاتم على حين يراها الأول بنفسجية، وهنا يمكن أن ننسب تأثيرا ً للحواس في إطلاق الحكم مع عِلْمنا أن حقيقة المتناوَل واحدة فعِلْمُنا بوجود الخوخة يقيني وعلمنا بلونها ظني باختلاف الشخص لاختلاف مستقبلاته عن الآخر ..
والعلمُ علمان:
ـ1ـ علمٌ يقينيّ: أوضروريّ وهو ما لا يحصل عن نظر واستدلال كالعلم بالبدهيات القائلة: الكل أكبر من الجزء، لا يصدق النفي والإثبات بآن واحد، لكل فعل فاعل، وكذلك العلم الواقع بإحدى الحواس الخمس ولكن في ضوء تمحيص العقل.
ـ2ـ علمٌ كسبيّ: وهو الموقوف على النظر والاستدلال، ولا يخفى هنا تأثير التجارب في تفتح المعارف واكتسابها، وتقدم العلوم التجريبية وما يرافقها من اكتشافات وابتكارات ..
ولئلا يحصل التباس، أبيّنُ مُرادي بكلمة النظر و الاستدلال
فالنظر: هو جولان الفكر في حال المنظور إليه. والاستدلال: ببساطة، طلب الدليل. والظن: تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر. والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر ..
ولابد للمعارف الداخلة في الاعتقاد أن تكون يقينية قطعية تعود إما إلى أوّليات عقلية أوالحواس، وما سواها لايكون يقينياً بل يكون تارة ظنياً ونشك فيه تارة أخرى عند عدم وجود مرجّح، ونطلق على العلم اليقيني كلمة اعتقاد.
أما الفلسفة فهي دراسة المبادئ الأولى وتفسير المعرفة تفسيراً عقلياً. واقتصرت في هذا العصر على المنطق والأخلاق وعلم الجمال وما وراء الطبيعة ..
ونجد هنا أنّ أوّل تطبيقات فرضيتهم ((الخريطة ليست هي الواقع)) هو تسفيه المعارف الإنسانية لاسيما القطعية منها المحصلة عن طريق الحواس في ضوء تمحيص العقل أو الاستنتاج العقلي المُلْزِم المستند إلى البدهيات. وقديما ً قالوا:
وليس يصح في الأذهان شيء ................. إذا احتاج النهار إلى دليل
وهل خلّد التاريخ اسم ديكارت في ميدان الفكر إلا بمثل قوله ((أنا أشك إذا ًأنا موجود)) وبذاك انتقل من عملية الشك إلى يقين الوجود فدحض مذهب الشكيين الشائع آنذاك وكذلك أرسطو الذي فنَّدَ مزاعم السفسطائيين الذين كانوا يحاولون إثبات الأمر وضده وأوضحَ الخلل الفكري والمزالق التي وقعوا بها. فهل يريد مروجو الـ NLP أن يعيدونا إلى تيه الشكيين وزيغ السفسطائيين. ونراهم في زعمهم هذا يركزون على عوامل التشويه في اكتساب المعارف وكأنها الأصل فيقولون إن الحواس تخدع ولها حدود، واللغة لها عيوب ويخلطون بين اللغة وتشويه مستعمليها فيقولون: عيوب اللغة:
1ـ التعميم. 2ـ الحذف. 3ـ التشويه.
وأقول: لا يصح إسناد العيوب إلى اللغة وإنما هي عيوب مستعمليها، و لا نسلم بأن ما ذكروه عيوبٌ، فكلنا يعلم أن التعميم والتخصيص من ميزات اللغة و ليس من عيوبها فالتعميم أن يشمل الحكم شيئين فصاعداً، و التخصيص تمييز بعض الجملة كالاستثناء و التقييد بالشرط والتقييد بالصفة، كأن أقول أقبل القوم إلا زيداً، فالإقبال حكم عام أخرجنا منه زيداً بالاستثناء؛ و أقول أعطني كلّ الورود الحمراء فكلمة كلّ تدل على العموم وخصصها النعت بالحمراء.
¥