تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وممن ذهب إلى هذه الأقوال وبعضها قوم لهم في صدري منزلة، مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين لأني على مذهب الشافعي– رضي الله عنه- عرفت فرائض ديني وأحكامه، فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال، وهم شيوخي ولي فيهم الاعتقاد التام، لفضلهم وعلمهم، ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها، وأجد الكدر والظلمة منها، وأجد ضيق الصدر، وعدم انشراحه مقروناً بها، فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره، المتململ من قلبه وتغيره.

وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء، والنزول مخافة الحصر والتشبيه، ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجدها نصوصاً تشير إلى حقائق هذه المعاني، وأجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبراً عن ربه، واصفاً لها بها، وأعلم بالاضطرار أنه صلى الله عليه وسلم كان يحضر في مجلسه الشريف، العالم، والجاهل، والذكي والبليد، والأعرابي، والجافي، ثم لا أجد شيئاً يعقب تلك النصوص التي كان يصف ربه بها، لا نصاً ولا ظاهراً مما يصرفها عن حقائقها، ويؤولها كما تأولها مشايخي الفقهاء المتكلمين مثل تأويلهم الاستيلاء بالاستواء، ونزول الأمر للنزول، وغير ذلك، ولم أجد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لديه من الفوقية، واليدين، وغيرهما، ولم ينقل عنه مقالة تدل على أن لهذه الصفات معاني أُخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها، مثل فوقية المرتبة، ويد النعمة، والقدرة وغير ذلك، وأجد الله- عز وجل- يقول: {الرحمن على العرش استوى}. {خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، يعلم}. {ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور، أم أمنتم من في السماء يرسل عليكم حاصباً}.

وسرد آيات كثيرة كلها تدل على فوقية الله وعلوه على خلقه إلى أن قال:

ثم أجد الرسول صلى الله عليه وسلم لما أراد الله تعالى أن يخصه بقربه عرج به من سماء إلى سماء حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ثم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح للجارية: ((أين الله؟)) فقالت: في السماء .. فلم ينكر عليها بحضرة أصحابه كيلا يتوهموا أن الأمر على خلاف ما هو عليه؛ بل أقرَّها وقال: ((اعتقها فإنها مؤمنة)). وفي حديث جبير بن مطعم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله فوق عرشه فوق سماواته، وسماواته فوق أرضه مثل القبة، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده مثل القبة)) وساق عدة أحاديث، وسيأتي ذكرها في موضعها.

إلى أن قال: لا ريب إنا نحن وإيَّاهُم مُتَّفِقون على إثبات صِفاتِ الحياةِ، والسَّمْع، والبَصَر، والعِلْم، والقُدْرَة، والإرادة، والكلامِ لله، ونحن قَطْعاً لا نَعْقل من الحياة إلا هذا العَرضْ الذي يقوم بأجسامنا وكذلك لا نعقل مِنَ السمعِ والبصرِ إلا أعراضاً تقوم بجوارحنا فكما إنهم يقولون حياته ليست بعَرَضٍ وعِلْمهُ كذلك وبَصَرُهُ كذلك هي صِفاتٌ كما تَليقُ به لا كما تَليقُ بنا فكذلك نقولُ نحن حياتهُ معلومةٌ وليست مكيَّفه وعلمهُ معلومٌ وليس مكيَّفاً وكذلك سمعه وبصرُهُ معلومان ليس جميع ذلك أعراضاً بل هو كما يليقُ به.

ومثلُ ذلك بِعيْنهِ فوقيته واستواؤه ونُزُله. ففوقيته مَعْلومةٌ أعني ثابتة كثبوت حقيقة السمع، وحقيقة البصر، فإنهما معلومان ولا يكيفان، كذلك فوقيته معلومة ثابتة غير مكيفة كما يليق به، واستواؤه على عرشه معلومٌ غير مُكيّف بحركة، أو انتقالٍ يليقُ بالمخلوقِ، بل كما يليقُ بعظمتهِ وجلالةِ صفاتِهِ معْلُومة مِنْ حيثُ الجُملةِ والثبوت غيرُ معقولة من حيثُ التَّكييفِ والتحديد، فيكون المؤمنُ بها مُبْصِراً من وَجه، أعمى من وجه، مبصراً من حيثُ الإثباتِ والوجودِ، أعمى من حيث التَّكييف والتَّحديد، وبهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصَفَ الله تعالى نفسه به، وبين نفي التَّحريف والتَّشْبيه والوقوفِ، وذلك هو مُرادُ الرَّبِّ تعالى منا في إبراز صفاته لنا لنعرفه به ونُؤمن بحقائقها، وننفي عنه التشبيه، ولا نعطلها بالتحريفِ، والتأويلِ ولا فرق بين الاستواء، والسمع، ولا بين النزول، والبصر، الكل ورد في النص.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير