فإن قالوا لنا: في الاستواء شبهتم، نَقُول لهم: في السمع شبَّهتم ووصفتُم ربَّكُم بالعَرَضِ، فإن قالوا: لا عَرَضَ بل كما يليقُ به، قُلنا: في الاستواء والفوْقية لا حَصْر بل كما يليقُ به فجميع ما يلزمُونا به في الاستواء، والنِّزُول، واليد، والوجهِ، والقَدَم، والضَّحكِ، والتَّعجبِ من التَّشبيه نُلزِمُهم به في الحياةِ، والسمعِ، فكما لا يجْعَلونها هم أعراضاً كذلك نحن لا نجعلها جوارح، ولا ما يُوَصَفُ به المخلوق، وليس من الإنصاف أن يفهموا الاستواء، والنزول، والوجه، واليد صفات المخلوقين فيحتاجوا إلى التَّأويل والتَّحْريف.
فإن فَهِموا في هذه الصفات ذلك فيلزمهم أن يفهموا في الصفات الشَّبْعِ (1) صفات المخلوقين من الأعراضِ، فما يلزمونا في تلك الصفات من التشبيه والجسمية نلزمهم به في هذه الصفات من العرضية، وما ينزهوا ربهم به في الصفات السبع وينفون عنه عوارض الجسم فيها، فكذلك نحن نعمل في تلك الصفات التي ينسبونا فيها إلى التشبيه سواء بسواء، ومن أنصف عرف ما قلنا اعتقده وقبل نصيحتنا ودان الله بإثبات جميع صفاته هذه وتلك، ونفى عن جميعها التشبيه، والتعطيل، والتأويل، والوقوف، وهذا مراد الله تعالى منا في ذلك لأن هذه الصفات وتلك جاءت في موضع واحد، وهو الكتاب والسنة، فإذا أثبتنا تلك بلا تأويل، وحرفنا هذه وأوّلناها كُنَّا كمنْ آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وفي هذا بلاغ وكفاية إن شاء الله تعالى.
هكذا نصح هذا الإمام الصادق في نصحه الإمام الجويني شيوخه الذين عاش معهم برهة من الزمن في التأويل والتحريف لصفات الله تعالى كلها أو التصرف فيها بإثبات بعضها وتأويل البعض الآخر، ثم تاب الله عليه فتاب وكتب هذه (النصيحة) التي انتخبنا منها بعض النقاط من أولها وآخرها [وقد نشرناها في مكتبة صيد الفوائد] وقد ناقشهم فيها بالأدلة النقلية والعقلية معاً وطالبهم بالإنصاف –والإنصاف من الإيمان- وأوضح لهم أنه لا يوجد ما يفرق بين ما أولوه وحرفوا فيه الكلام وبين ما أثبتوه من الصفات لأن هذه وتلك جاءت في موضع واحد وهو الوحي من كتاب أو سنة، ودرج على عدم التفريق بينها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وعلماء الحديث.
ثم أوضح السبب الذي حمل علماء الكلام على تأويلهم صفات الله تعالى عامة والصفات الخبرية السمعية خاصة. وهو أنهم فهموا منها خطأ، المعاني التي لا تليق بالمخلوق، قم أرادوا تصحيح ذلك المفهوم الخاطئ فوقعوا في التأويل أي شبهوا أولاً ثم عطلوا ثانياً، هذه هي حقيقة القوم وعقيدتهم.
فنسأل الله تعالى أن يجزل المثوبة لهذا الإمام وأمثاله على هذه النصيحة الهادئة والصادقة، إنه سميع قريب.
فليهنأ أبو محمد الجويني بهذا التوفيق وهذه الهداية، ولعل الله علم من الرجل الإخلاص في علمه وجهاده الذي بذله في البحث عن الحق في فترة (حيرته وتردده) تلك الفترة الصعبة على قصرها- فيما أحسب- فهداه الله ووفقه مصداقاً لقوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}، ولقد كاد حبه وتقديره لشيوخه أن يخلداه إلى أرض التقليد ليحولا بينه وبين راية الحق واتباعه (ولكن الله سلم) ووفقه وأخذ بيده إلى بر السلامة، فسلم ونحمد الله على ذلك.
إذ قارن الإمام بين ما يخوض فيه شيوخه من التأويل وبين ما ينطق به الكتاب المبين والسنة المطهرة من إثبات حقائق الصفات، فتأكد أن شيوخه لم يفهموا نصوص الصفات الفهم الصحيح لا سيما الصفات الخبرية، بل لم يفهموا منها إلا ما يليق بالمخلوق ولذلك تورطوا في التحريف والتعطيل أو الوقوف دون محاولة للفهم، لذا بادر الإمام أبو محمد بتوجيه تلك النصيحة فور توبته وسلوكه مسلك السلف على بصيرة من ربه.
لم أجد قلمي كعادته يجري للحديث عن هذا الجبل؛ بل وجدت أن هناك أحد العلماء قد صور ما سبق، فما كان مني إلا أن نقلته بحذافيره بتصرف قليل جداً، وقمت بصف الرسالة على ملف word ، فجزى الله الشيخ الجامي خير الجزاء على تصويره لواقع الجويني، وجزى الله الجويني صاحب النفس الأوابة خير الجزاء، ورفع منزلتهما في عليين ..
هكذا هي النفوس الكبيرة فقط، تتحرر من أغلال التقليد الأعمى، وتبحث في الدليل، حتى تصل بتوفيقه الله إلى طريق الهداية، وإتباع السنة ..
أعده
المنهج - شبكة الدفاع عن السنة