تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[التصرف عن الغير بخلاف ما تقتضيه المصلحة]

ـ[عبد الرحمن السديس]ــــــــ[24 - 02 - 06, 09:32 م]ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله واسع العطاء المتفضل بالنعماء أحمده حمدا يليق بعظمته وجلاله، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم النبي الخاتم أكرم الخلق، وأعظمهم عند الله مقدارا. أما بعد:

فإن هذه الشريعة الغراء الكاملة قد أُحكمت من لدن حكيم خبير، وجُعلت رحمة للعباد، بنيت على جلب المصالح لهم، ودرء القبائح عنهم.

الدين مبني على المصالح * في جلبها والدرء للقبائح.

ومن المصالح التي جاءت بها الشريعة: تكليف بعض الناس بالقيام على بعض الأمور المتعلقة بمصالح المسلمين، وتدبيرها .. كالإمام الأعظم، ومن دونه من أصحاب الولايات بأنواعها، كناظر الوقف، ومتولي مال اليتيم .. ونحوهم.

وهؤلاء القائمون بهذه المهام الجليلة موكلون في التصرف فيما تحت أيديهم بما تقتضيه المصلحة، ولا يحل لهم التصرف بخلاف ذلك.

وهذه المسألة المهمة قد ذكرها العلماء في كتب القواعد الفقهية بألفاظ مختلفة مؤداها واحد أو متقارب فمن ذلك قولهم:

(منزلة الإمام من الرعية منزلة الوليّ من اليتيم).

(كل متصرف عن الغير عليه أن يتصرف بالمصلحة)

(تصرف الإمام منوط بالمصلحة)

(تصرف الإمام للرعية * أنيط بالمصلحة المرعية)

(التصرف على الرعية منوط بالمصلحة)

ونحو ذلك مما تجده مدوّن في كتب القواعد، والأشباه والنظائر، والفروق، وكتب الفقه، وغيرها.

قال الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوي 32/ 53:

وأوجب الله على أولياء النساء أن ينظروا في مصلحة المرأة لا في أهواءهم، كسائر الأولياء والوكلاء ممن تَصرف لغيره؛ فإنه يقصد مصلحة من تصرف له لا يقصد هواه؛ فإن هذا من الأمانة التي أمر الله أن تؤدى إلى أهلها فقال {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}، وهذا من النصيحة الواجبة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم ". اهـ

وقال العلامة الفقيه الشافعي العز بن عبد السلام في قواعد الإحكام 2/ 75:

فصل: في تصرف الولاة ونوابهم

يتصرف الولاة ونوابهم بما ذكرنا من التصرفات بما هو الأصلح للمولى عليه درءا للضرر والفساد , وجلبا للنفع والرشاد , ولا يقتصر أحدهم على الصلاح مع القدرة على الأصلح؛ إلا أن يؤدي إلى مشقة شديدة , ولا يتخيرون في التصرف حسب تخيرهم في حقوق أنفسهم، مثل: أن يبيعوا درهما بدرهم , أو مكيلة زبيب بمثلها، لقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} , وإن كان هذا في حقوق اليتامى؛ فأولى أن يثبت في حقوق عامة المسلمين فيما يتصرف فيه الأئمة من الأموال العامة ; لأن اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة , وكل تصرف جر فسادا أو دفع صلاحا = فهو منهي عنه، كإضاعة المال بغير فائدة ..

وقال العلامة القرافي المالكي في الفروق 4/ 76:

اعلم أن كل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية لا يحل له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة، أو درء مفسدة لقوله تعالى {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ولقوله عليه السلام " من ولي من أمور أمتي شيئا ثم لم يجتهد لهم , ولم ينصح فالجنة عليه حرام " .. اهـ

وقال الفقيه الحنفي ابن نجيم في الأشباه والنظائر ص139:

تصرف القاضي فيما له فعله في أموال اليتامى، والتركات، والأوقاف مقيد بالمصلحة، فإن لم يكن مبنيا عليها = لم يصح.

وفي المنثور في القواعد للفقيه الزركشي الشافعي 1/ 309:

تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة نص عليه: قال الفارسي في عيون المسائل: قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: "منزلة الوالي من الرعية: منزلة الوليّ من اليتيم " انتهى.

وهو نص في كل وال. اهـ.

إذا تقرر هذا فإنك ترى في هذه الأزمنة بعض ممن يتولى أموالا عامة يتصرف فيها بخلاف المصلحة ..

ولست أعني من كان غير أهل لتولي مثل هذه الولايات كما هو حال كثير ممن أوكل له التصرف في بعض أمور المسلمين اليوم، فهؤلاء البلاءُ بهم كبير، وهم غير مؤتمنين على ما تحت أيديهم، ولا يظن بهم إلا فعل ما ينتفعون به!

وإنما أعني أهل الفضل والخير، ومن احتسب الأجر، وعمل متطوعا لوجه الله، ونفع المسلمين، فإنك تجد من بعضهم تجاوزا في التصرف في الأموال العامة بغير ما تقتضيه المصلحة، ويقع هذا إما غفلة، أو جهلا، أو تساهلا، أو .. الخ

و يختلف ذلك بحسب حال المتجاوز.

ومن أمثلة ذلك:

• أنك ترى من يجمع أموالا من الناس لبناء مسجد، أو ترميمه .. الخ، ثم ترى ألوانا من التصرف في هذا المال في غير محلها، كزخرفة المسجد بأنواع من الزخارف، ووضع الثريات الغالية، وتكثير سماعات الصوت زيادة على حاجة المسجد .. ونحو ذلك.

• وتجد مَن يجمع أموالا لبعض دور تحفيظ القرآن .. ثم تجده قد صرف من هذه الأموال على مكتب إدارة الحلقات واشترى تجهيزات المكتب من أفخر الموجود.

• وكذا مَن يجمع أموالا لتفطير الصائمين ثم لا يجتهد في التعامل مع هذا المال بالأفضل والأرخص مع الإمكان.

ونحو ذلك من التجاوزات ..

فأذكِر نفسي، وإخواني بعظم المسؤولية، وخطورة الأمر، فهذه حقوق للعباد مبناها على المشاحة، ومصالح للخلق قد ائتمنتم عليها؛ فاتقوا الله فيما وليتم، وتناصحوا بينكم، وتداركوا ما فرطتم فيهم قبل ألا يكون دينار ولا درهم.

والله أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير