وإذا كان البشر لا يستطيعون رؤية الملائكة والتلقي عنهم بيسر وسهولة فيقتضي هذا - لو شاء الله أن يرسل مَلكا رسولا إلى البشر - أن يجعله رجلا (ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لجعلناهُ رَجُلاً ولَلَبسْنا عليهم ما يلبِسون) الأنعام/9.
والتباس الأمر عليهم بسبب كونه في صورة رجل، فلا يستطيعون أن يتحققوا من كونه ملكاً، وإذا كان الأمر كذلك فلا فائدة من إرسال الرسل من الملائكة على هذا النحو، بل إرسالهم من الملائكة على هذا النحو لا يحقق الغرض المطلوب، لكون الرسول الملك لا يستطيع أن يحس بإحساس البشر وعواطفهم وانفعالاتهم وإن تشكل بأشكالهم.
" الرسل والرسالات " (72، 73).
رابعاً:
وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة فهو من أقوال المخرفين من الصوفية، ولا أصل له في الشرع ولا في واقع الحال، وقد وقعت للصحابة رضي الله عنهم أمورٌ عظيمة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكانوا في أمس الحاجة لوجوده بينهم، فَلِمَ لمْ يظهر لهم؟ ولم يروه وهو أحب الناس إليهم، وهم أحب الناس إليه؟!
وأما استدلال بعضهم بالحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة) على إمكانية رؤية النبي صلى الله عليه وسم يقظة: فليس فيه ما يدل على ما قالوه، بل هذا فيه البشرى لمن رآه في المنام أن يراه في الجنة، وليس المعنى أنه يراه يقظة في الدنيا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع - يعني الرؤية - بعيني الرأس حقيقة.
" فتح الباري " (12/ 384).
وقال النووي رحمه الله في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فسيراني في اليقظة): فيه أقوال:
أحدها: أن يراد به أهل عصره، ومعناه: أن من رآه في النوم ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة عياناً.
وثانيها: أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة؛ لأنه يراه في الآخرة جميع أمته.
وثالثها: أنه يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول شفاعته، ونحو ذلك.
" شرح مسلم " (15/ 26).
ولا يتعارض ما ذكره النووي في القول الأول مع ما أنكره الحافظ ابن حجر؛ لأن النووي ذكر أنه يراد به أهل عصره صلى الله عليه وسلم، وما أنكره الحافظ إنما هو لمن زعم الرؤية حقيقة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو العباس القرطبي – ردّاً على من قال برؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة -:
وهذا يدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده ولا يبقى في قبره منه شيء، فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره.
نقله عنه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (12/ 384).
وأيضاً لو كان صحيحاً أن أحداً يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لكان عداده في الصحابة ولاستمرت الصحبة إلى يوم القيامة.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني أن ابن أبى جمرة نقل عن جماعة من المتصوفة " أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك "! ثم تعقب الحافظ ذلك بقوله:
" وهذا مشكل جدّاً، ولو حمل على ظاهره: لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويعكِّر عليه أن جمعاً جمّاً رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف.
" فتح الباري " (12/ 385).
وفي رد علماء اللجنة الدائمة على عقيدة التيجاني قالوا:
¥