6 ـ أنَّ مقياس الغلبة مقياسٌ ثابت معتبر عند الفقهاء في تعاملهم مع المسائل الفقهية، وقد صاغ الفقهاء هذا المعنى صياغة القواعد الفقهية، فقالوا: «للأكثر حكم الكل» وقالوا: «قيام الأكثر مقام الكل أصلٌ معتبر في الشريعة». وهذه بعض التطبيقات لهذه القاعدة عندهم:
ـ أنهم غلبوا الأغلب في استعمال الماء إذا اختلط بمائع.
ـ أنهم غلبوا الأغلب في السقي بعلاً أو بآلةٍ لإخراج زكاة الغالب منهما.
ـ إذا كان غلب مال الشخص حراماً حَرُمَ الأكل، وإلا فلا.
ـ إذا ركب مع الحرير غيره، فإن كان الأغلب الحرير حَرُمَ، وإلا فلا (10).
7 ـ أنَّ أحداً قلَّما يكون خالصاً للطاعة، أو سالماً من المعصية، ولا تكون الطاعة مقصورةً على خلوص الطاعات، ولا الفسق مقصوراً على خلوص المعاصي لامتناع خلوص كل واحد منهما، ولا اعتبار بالممتنع، فوجب اعتبار الأغلب من أحوال المكلف، فإن كان الأغلب عليه الطاعة والمروءة حُكِمَ بعدالته، وإن عصى ببعض الصغائر، وإن كان الأغلب عليه المعصية حُكم بفسقه (11)
النقطة الثالثة ـ ضبط غلبة الصغائر: يمكن ضبط غلبة الصغائر على الطاعات بالطرق التالية:
ـ العَدّ: فإذا كان عدد الطاعات يزيد على عدد المعاصي فهو عدل، وإن كان العكس فهو فاسق، فمن اجتنب الكبائر وفعل مئة حسنة وتسعاً وتسعين صغيرة فهو عدل، وإن فعل حسنةً وصغيرتين فهو فاسق، ولا ينظر هنا إلى تفاصيل ثواب الطاعات أو شدة عقاب المعاصي؛ لأنها أمور أخروية.
ـ العُرف: فما اعتبره عدول الناس من كثرة معاصي شخصٍ ما وغلبتها على طاعته، فهو فاسق باعتبارهم هذا.
ـ ظاهر حال الشخص: فمن كان ظاهره غَلبة الطاعة كان عدلاً، ومن كان ظاهره غلبة المعصية فهو فاسق (12)
تنبيه ـ كل من تقع منه الصغيرة فيقلع عنها ويتوب ثم يواقعها من غير عزمٍ سابق على تكرار الفعل، فليس بإصرار، فكل صغيرة تاب عنها المكلف لا تدخل فيما ذُكر من الغلبة؛ لأن التوبة الصحيحة تُذهب أثر الصغيرة بالكلية (13)
النقطة الرابعة: رد شبهة تتعلق بمقياس الغلبة:
بعد الخلوص إلى أن غلبة الصغائر هي العامل المؤثر في الحكم بالفسق على المكلف؛ لا بد من الإلماع إلى أن هذه النتيجة لا تعني الاستغراق في صغائر الذنوب أو الإغراء بالإقدام عليها، بحجة أن صاحبها قد غلبت حسناتُه صغائرَه! ولدفع هذه الشبهة ـ ودَفْعُ الشُّبهةِ من السنة ـ هذا توضيح ما تندفع به، وهو ما يلي:
أولاً ـ أن الشرع حرَّم صغائر الذنوب تحريماً قطعياً، وهي قسيم الكبائر في طلب الشرع الاجتناب عنها بالكلية، لا فرق بينهما، من حيث كون كل منها مطلوب اجتنابه.
ثانياً ـ أن الاستخفاف بالصغيرة كفرٌ إذا ثبت المنع بدليل قطعي (14)
ثالثاً ـ أن النصوص الشرعية جاءت بخصوص التأكيد على اجتناب صغائر الذنوب، وأن ورودها يورد مرتكبها المهالك، وهذه بعض النصوص المجلية لهذه الحقيقة:
أ ـ عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر: «ارحَموا تُرحَموا، واغفِروا يُغفَرْ لكم، ويلٌ لأَقماعِ القَولِ، ويلٌ للمُصرِّينَ الّذين يُصرُّون على مَا فَعلوا وهم يَعلَمون» (15)
ب ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، إياك ومُحقَّرات الذنوب؛ فإنَّ لهَا من عندِ الله طَالباً» (16)
جـ ـ عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومُحَقَّرات الذنوب، فإنهنَّ يَجتمِعْنَ على الرجُلِ حتى يُهْلكنَه ... » الحديث ((17
د ـ عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا هو نزع واستغفر صُقلت، فإن عاد زيدَ فيها، فإن عاد زيدَ فيها حتى تعلو قلبه، فهو الذي ذكر الله {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (18)
هـ ـ عن أنس رضي الله عنه قال: «إنكم لتعملون أعمالاً هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعر، إن كُنّا نعدُّها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات» (19)
والحديث الأخير يمثل فقه الذنب عند الصحابة رضي الله عنهم؛ فمن حيث خشية الله: الذنوب عندهم كلها مهلكات صغيرُها وغير صغيرها، والمقام يطول بعرض هذه الحقيقة وليس هذا موضع بسطه.
¥