هذا محور النقاط التالية من هذا البحث:
ـ النقطة الأولى: تعريف الإصرار لغةً واصطلاحاً.
ـ النقطة الثانية: ضابط الإصرار على الصغيرة.
ـ النقطة الثالثة: هل تنقلب الصغيرةُ كبيرةً بالإصرار.
النقطة الأولى ـ تعريف الإصرار لغةً واصطلاحاً:
أولاً ـ تعريف الإصرار لغةً:
جاء في لسان العرب: «أَصَرَّ على الأمر: عَزَمَ، وأصررت على الشيء إذا قمت ودمت عليه ...
وأصرَّ على الشيء يصرُّ إصراراً: إذا لزمه وداومه وثبت عليه، وأكثر ما يستعمل في الشر والذنوب». (1)
وعرف الأصفهاني الإصرار بأنه: «التَّعَقُّد في الذنب والتشدُّد فيه والامتناع من الإقلاع عنه، وأصله من الصَّرِّ أي الشد .. {وكانوا يصرون على الحنث العظيم} [الواقعة: 46] والإصرار: كل عزمٍ شددت عليه» (2)
فالإصرار له معنيان في اللغة:
ـ العزم على الأمر.
ـ مداومة الشيء ولزومه.
وسنلاحظ أن العلماء استخدموا كلا المعنيين في التعريف الاصطلاحي: العزم، والمداومة.
ثانياً ـ تعريف الإصرار اصطلاحاً:
اختلفت عبارة العلماء في تعريف الإصرار، إلاَّ أنَّ المعاني الإجمالية لتعاريفهم متفقة، وهذه بعض التعاريف:
فقه عرَّفه الجرجاني فقال: «الإصرار: الإقامة على الذنب، والعزم على فعل مثله» (3)
وجاء في «الفواكه الدواني»: «وحقيقة الإصرار على الذنب: الإقامة عليه والعزم على العود إليه» (4)
وعرفه ابن الصلاح بأنه: «التلبُّس بضدِّ التوبة، باستمرار العزم على المعاودة واستدامة الفعل» (5).
وعن بعض الشافعية: «الإصرار: أن يمضي زمنٌ تمكن فيه التوبة ولم يتب» (6)
ثالثاً ـ التعريف المختار للإصرار وما يعتبر فيه:
بعد ما تقدم يمكن اختيار التعريف التالي: الإصرار: هو الإقامة على الذنب، والعزم على فعله أو فعل مثله.
فالإصرار يكون باعتبارين: اعتبار فعلي، واعتبار حكمي.
الاعتبار الفعلي: هو الإقامة على الصغيرة، أي: المداومة عليها.
والاعتبار الحكمي: هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها (7).
ومن خلال هذا التعريف للإصرار لا بد من توضيح ضابط الإصرار وهو موضوع النقطة الثانية:
النقطة الثانية ـ ضابط الإصرار على الصغيرة:
اختلف العلماء في ضابط الإصرار على الصغيرة الذي يُفسق فاعله على أقوال عديدة، هذا بيانها:
1 ـ المداومة على نوع من الصغائر. (8)
2 ـ الإكثار من الصغائر سواء كانت من نوع أو أنواع (9).
3 ـ تكرُّرُ فعل الصغيرة تكرراً يُشعر بِقلة مبالاته بدينه، إشعَارَ ارتكابِ الكبيرة (10).
4 ـ اجتماع صغائرَ مختلفةِ الأنواع، بحيثُ يُشْعِرُ مجموعها بما يُشْعِرُ أصغرُ الكبائرِ (11)
5 ـ أنْ يفعلَ الصغيرة ومن عزمه أن يعود إليها (12).
لكن يؤخذ على هذا الأخير أن العزم أمرٌ باطني لا يمكن الاطلاع عليه إلا إذا خرج إلى حيز الوجود، ويؤخذ على الثالث والرابع أنَّ إشعار قلة المبالاة والإخلال بالثقة المتأتي عن ارتكاب هذه الصغائر أمرٌ يَعسر ضبطه، فهو يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، ويحتاج إلى دقيق نظرٍ من صحيحي النظر والاعتبار، وهو مع هذا ضابطٌ لا يمكن التخلي عنه، ويمكن اعتباره من الضوابط الحاكمة على المُصِرِّ على الصغائر بالجملة، والله أعلم.
وكذا ما في الأول من الضوابط من أنَّ إدامة نوع من أنواع الصغائر هو إصرار يفسق صاحبه أمر يُستأنس به، ولا يعتمد عليه في تفسيق المكلف، وذلك لعموم تَقَحُّم الناس في مداومة الصغائر مع الحفاظ على الطاعات المأمور بها والإكثار من الخيرات المندوب إليها. فقد يداوم المسلم على صغيرة ويكون له من كُثْرِ الطاعات ولزوم التقوى والإقبال على الله عز وجل ما يَطيش بهذه الصغيرة، فكيف يحكم على من هذا حاله بالفسق؟.
ويبقى الثاني من هذه الضوابط الذي ينص على أن الإصرار المفسق هو الإكثار من هذه الصغائر وهو أقرب هذه الضوابط إلى الصواب ومعنى الإكثار هو الغلبة كما قال البُلْقِيني: «أن المراد بالأكثرية التي تغلب بها معاصيه على طاعاته» (13).
والنتيجة التي يُصار إليها بعد عرض هذه الضوابط أن التفسيق يدور مع الغلبة، غلبة الصغائر على الطاعات؛ فحيث وجدت وُجِدَ، وحيث عدمت عُدِمَ.
فما هي الغلبة وما أقوال العلماء فيها، وما دليلها، وغير ذلك من التساؤلات سيكون محور البحث التالي.
¥