لكن قبل الانتقال إليه لا بد من بيان نقطة هامة، وهي عبارةٌ أَكْثَرَ الفقهاء من تردادها في كتبهم؛ فحيث يكون الكلام عن الصغائر تكون هذه العبارة: «الإصرار على الصغيرة كبيرة».
فهل هي عبارة صحيحة مهما يكن الإصرار، سواء كان عزماً أو مداومةً أو إكثاراً، أو غير ذلك؟ هذا ما تتناوله النقطة التالية:
النقطة الثالثة ـ هل تنقلب الصغيرة كبيرة بالإصرار؟:
ذهب جماعة من العلماء (14) إلى أن الإصرار على الصغيرة يُصيِّرها كبيرة.
وقد استدل هؤلاء بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار» (15).
ووجه الدلالة: أن الصغيرة تعظم بالمواظبة عليها فتصير كبيرة. (16)
واعتبار الإصرار على الصغيرة كبيرةً هو من باب الإلحاق؛ فهو «لا يصيّر الصغيرةَ كبيرةً حقيقة، وإنما يلحقها بها في الحكم» (17).
وبالمقابل ذهب بعض العلماء إلى أن الإصرار على الصغيرة صغيرة، لا تنقلب به إلى كبيرة.
جاء في «البحر المحيط» للزركشي: «إنَّ الإصرار حكمه حكم ما أصر به عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة .. » (18).
ونقل ابن حجر الهيتمي أن الرافعي لم يذكر أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرةً كما نُسب إليه، وإنما ذكر: «أن الشاهد يَفْسُق، والتفسيق وردُّ الشهادة لا يلزم أن يكون عن كبيرة، فقد يكونان بالإصرار على الصغائر، وعلى صغيرة واحدة يَعْظُم خطرها كقبلة أجنبية بحضرة الناس». ثم قال معقباً على ذكر التفسيق بالصغيرة: «ليس كما ذكر في التفسيق إذ لا يكون إلا عن كبيرة، بخلاف رد الشهادة، فإنه يكون عن خَرْم مروءة» (19).
وقال الشوكاني: «وقد قيل: إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به .. بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصَرَّ عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة» (20).
المناقشة والترجيح:
الحق ما قال هؤلاء في أنَّ الصغيرة لا تتحول إلى كبيرة بالإصرار عليها، إذ ليس هناك دليل يصلح التمسك والاحتجاج به في صيرورة الصغيرة كبيرةً بالإصرار.
وخلاصة القول: الإصرار على الصغيرة يكون مؤثراً في مقياس الغلبة عندما تغلب معاصيه على طاعاتِه، ولا يكون الإصرار مؤثراً إذا غلبت طاعاته على معاصيه، فالعبرة دائماً للغلبة.
والمبحث التالي يبين ما يتعلق بهذه الغلبة مع دليلها وضابطها وأثرها ...
ـــــــــــــــــــ
المراجع (الحواشي):
(1) لسان العرب لابن منظور: 4/ 452 ـ 453.
(2) مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، ص482.
(3) التعريفات للجرجاني، ص44.
(4) الفواكه الدواني للنَّفراوي: 1/ 92.
(5) الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي: 2/ 217، ونقل الزبيدي هذا التعريف عن ابن الصلاح مع اختلافٍ فيه، ونصُّه: «الإصرار: هو التلبُّس بعد التوبة باستمرار النوع على المعاودة، واستدامة الفعل بحيث يدخل به في حيّز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرة». شرح إحياء علوم الدين للزبيدي: 8/ 546.
(6) الشرواني على تحفة المحتاج: 13/ 209.
(7) ينظر: البحر المحيط للزركشي: 4/ 277.
(8) تحفة المحتاج لابن حجر مع الشرواني على تحفة المحتاج: 13/ 209 ـ 210؛ رسائل ابن نجيم، ص261؛ البحر المحيط للزركشي: 4/ 278؛ الأشباه والنظائر للسيوطي، ص609؛ الزواجر لابن حجر: 2/ 216.
(9) المراجع السابقة، والحاوي الكبير للماوردي: 17/ 156.
(10) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، ص51؛ الفروق للقرافي: 4/ 67؛ الذخيرة للقرافي: 10/ 223.
(11) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ص51.
(12) رسائل ابن نجيم، ص261، وهو اخيتار القرافي في (شرح تنقيح الفصول)، ص361.
(13) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص609.
(14) ينظر: شعب الإيمان للبيهقي: 1/ 269؛ إحياء علوم الدين للغزالي: 4/ 32؛ الفروق للقرافي: 4/ 67؛ البحر المحيط للزركشي: 4/ 277؛ الفواكه الدواني للنفراوي: 1/ 92؛ بدائع الصنائع للكاساني: 5/ 405؛ حاشية قرَّة عيون الأخبار تكملة ردّ المحتار: 7/ 113.
(15) رواه القضاعي في مسند الشهاب، رقم (853)؛ والديلمي في مسند الفردوس، رقم (7944)؛ من طريق أبي شيبة الخراساني، وهو كما ذكر البخاري لا يتابع على حديثه، وقال الذهبي عنه في الميزان: 4/ 537 أتى بخبرٍ منكر وذكر هذا الحديث.
فالحديث ضعيف لا يحتج به وقد ضعَّفه العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: 4/ 18؛ والسخاوي في المقاصد الحسنة، ص467؛ وابن رجب في جامع العلوم والحكم: 1/ 449؛ والعجلوني في كشف الخفا: 2/ 364.
(16) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: 6/ 436.
(17) تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي: 13/ 210؛ نهاية المحتاج للرملي: 8/ 279.
(18) البحر المحيط للزركشي: 4/ 277 ونسب هذا القول إلى أبي طالب القضاعي.
(19) الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر: 2/ 216 ـ 217.
(20) إرشاد الفحول للشوكاني: 1/ 184.
وكتب أبو عبد الله الساحلي
الموضوع التالي: غلبة الصغائر وأثرها على الفسق
ـــــــــــــــــــــــ
حكم لعن المسلم الفاسق. doc
¥