ومِن تناقُض الذين يَستَنكِرونَ عَدمَ فصل القُرآن والكلام العادي بِفاصِل (كَقول: صدق الله العَظيم)؛ أنَنَّا نقولُ لهم: أليس قول (صدق الله العظيم) كلام البشر؟!! فكيف تَفصِلون بين القُرآن وكلام البَشَر بكلامٍ البَشَر؟!!
وأقولُ لهم أيضًا: لماذا اقتصرتُم على قول (صدق اللهُ العَظيم) دون غَيرِها؟!! يَعني: لماذا لا تقولون –مَثلا- (صدق الرَّحمَنُ الرَّحيم) أو (صَدَقَ المَلِكُ الوهَّاب)؟!! ولماذا تَقتَصِرون –أصلا- على لفظة "صَدَق" دون غَيرِها؟!! لِمَ لا تقولون –مَثلا- (الحَقُّ ما قال الله)؟!!
وإلى مَن لا يَقتَنِعون بقولِ اللهِ (تَبارَك وتعالى) وقولِ رَسولِه (صلى الله عليه وسلم)، ولا يَقتَنِعون إلا بالعَقل –زَعُموا؛ مع أنَّ العَقل السَّليم لا يُنافي الشَّرع الصَّريح ألبَتَة؛ أقول:
مِن المُقَرَّر عِند عُلماء اللغة العَرَبية والبَيان أنَّ الجُملَ نوعان:
1 - جُمل خبرية (تقريرية): وهي الجُمَل التي تَحتَمِل التَّصديق والتَّكذيب. كقولك: أحمد مُلتَزِم بهَدي النَّبي (صلى الله عليه وسلم)، أو جاء أحمَد، أو لم يُسافِر أحمد اليوم، أو يَتلو أحمد القرآنَ كلَ يوم. فهذه الجُمَل تَحتَمِل أن يُصَدَّق قائِلُها أو يُكَذَّب، فلو قال لك قائِلٌ: أحمد مُجتَهِد، تَستطيعُ أن تقولَ له: صَدقتَ أو كَذَبت، وهكذا في كل الجُمَل الخَبَريَّة؛ وضابِطُها ما قُلناه وهي كل جملة ليست إنشائية.
2 - جُمَل إنشائية: وهي الجُمَل التي لا تَحتَمِل التَّصديق أو التَّكذيب، وقد تكون جملةً طَلَبيَّة (أمر، نَهي) أو جملةً تَدُّل على الطَّلَب؛ كأن تُسبَق باستفهام أو تَمَني أو تَرَجِّي. كقولِك لأخيك: صَلِّ صلاة موَدِّع! أو لا تُقَلِّد المُشركين! أو هل رأيتَ مُحمَّدًا؟! أو لَيتَ المُسلِمين يَعودون إلى دينِهم! أو لَعَل اللهَ يُخرِج مِن أمَّتِنَا مَن يُعيدُ إليها مَجدَها! فهذه الجُمَل السابِقَة لا تَحتَمِل مِن سامِعها أن يُصَدِّقَ قائِلَها أو يُكَذِّبُه؛ فلو قال لك قائِلٌ: صَلِّ، فلا يجوزُ أن تقولَ له: صَدَقتَ أو كَذَبتَ، وهكذا في كل الجُمَل الإنشائية.
إذا تَبَيَّن هذا؛ فالقُرآن الكَريم يَجمَع في سُوَرِه بين الجَملَ الخَبَرية والإنشائية، بل قَد تَجمَع الآية الواحِدَة النَّوعَين مَعًا، وهاكَ أمثِلَةً مِن كل نوع:
فَمِن أمثِلَة الجُمَل الخَبَرية؛ قولُه –تعالى-: (إنَّ اللهَ على كُلِّ شَئ قَديرٌ) [البقرة: 20]، (أولئك على هدي مِن رَبهم وأولئك هم المُفلِحون) [البقرة: 5]، (قَد أفلَح المؤمِنون) [المؤمِنون: 1].
ومِن أمثِلَة الجُمَل الإنشائية؛ قولُه –تعالى-: (واتَّقُوا يومًا لا تَجزي نَفسٌ عَن نَفسٍ شَيئًا) [البقرة: 48]، (ولا تكونوا كالذين نَسُوا اللهَ فأنساهُم أنفسَهم) [الحشر: 19]، (أليس اللهُ بأحكِم الحاكِمين) [التين: 8].
ومِن أمثِلَة الآيات التي جَمَعت بين الجُملَتَين مَعًا؛ قولُه –تعالى- (ألم تَعلم أنَّ اللهَ لم مُلكُ السَّموات والأرض، وما لكم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَليٍّ ولا نَصير) [البقرة: 107].
وقارئ القُرآن لا يخَلو –عِند فَراغِه مِن التلاوة- أن يَقِف على إحدى نَوعَي الجُمَل: إمَّا أن يَقِفَ على جمُلَة خَبَرية أو إنشائية. فهل –باللهِ- إن وَقَف على جُملَةٍ إنشائية يَليقُ به أن يقولَ (صَدَق الله العَظيم)، وهي –كما بَيَّنَّا- لا تَحتَمِلُ التَّصديق أو التَّكذيب؟!! أفيجوزُ هذا العَبَثُ بِكتابِ الله –تبارك وتعالى-؟!! وإن قال: أقولُها عِند رأس الجُمَل الخَبَرية فَقَط! نقولُ له: كَذَبت ورَبي؛ واقِعُك يُخالِفُ قولَك، ثُم مِن أين لك الدَّليل على التَّفريقِ بين النَّوعَين؟!! أتَضَعُ ضوابِطًا لبِدْعَة ابتدعتَها ما أنزَلَ اللهُ بِها مِن سُلطان؟!! (تاللهِ إنَّ هذا لَشئٌ عجاب) [ص: 5].
الجواب عَن الشُّبهات الوارِدَة في هذه المسألة:
الشُبهة الأولى: قد يَستَدِلُ البَعضُ على جوازِها بقولِه –تعالى- (قُل صَدَق الله فاتَّبِعوا مِلَّة إبراهيم حِنيفًا) [آل عِمران: 95]، وقولِه (ومَن أصدَقُ مِن الله حَديثًا) [النِّساء: 87]، وقولِه (ومَن أصدَقُ مِن الله قِيلا) [النِّساء: 122]، فهو استدلال مَردودٌ مِن غَير وَجه:
¥