هذا، وإن كثيراً من المسلمين ـ والله الحمد ـ يحرصون على أداء السنن الرواتب عقيب الصلوات الخمس في المساجد، أو قبلها إن كانت الراتبة قبلية، وهو أمر يحمدون عليه ويرجى لهم به وافر الحسنات؛ لكنهم يغفلون عن أمر مهم، وهو أن الأفضل أداء السنن الرواتب ونحوها من النفل المطلق في البيوت والمساكن ـ ولا يستثنى من ذلك إلا النوافل التي يشرع لها الجماعة كصلاة القيام في رمضان مثلاً ـ هذا هو السنة في هذه السنة، وإليك بعض الأدلة:
1ـ عن يزيد بن ثابت رضي الله عنه: أن رسول الله قال: "صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" (6).
وفي لفظ عند أبي داود: "صلاة أحدكم في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة" (7).
2ـ وعن عبدالله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله عن تطوعه؟ فقالت: كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج يصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين. وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين. ثم يصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، ... إلى أن قالت: وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين.
زاد أبو داود: ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر (8).
3ـ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً" (9).
ومن الثابت المستفيض أن الصلاة في مسجد رسول الله بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ومع ذلك كان رسول الله يدع التنفل فيه، ويصلي الرواتب في بيته غالباً كما مرّ من حديث عائشة رضي الله عنها، بل ويحث الصحابة على ذلك بصريح العبارة.
ومما يؤكد ذلك ماثبت من حديث عبدالله ابن سعد الحرامي الأنصاري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله: أيما أفضل، الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال: "ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد، إلا أن تكون صلاة مكتوبة" (10).
ومثله كذلك ما رواه كعب بن عجرة رضي الله عنه حيث قال: إن النبي أتى مسجد بني عبد الأشهل، فصلى فيه المغرب، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها ـ أي يتنفلون بالراتبة ـ فقال: "هذه صلاة البيوت".
وفي لفظ: "عليكم بهذه الصلاة في البيوت" (11).
وهذه الأحاديث وأمثالها هي التي حملت جماعة من أهل العلم على القول بأن الفضل الوارد في تضعيف الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي خاص بالفرائض دون النوافل، وظاهر الآثار يدل عليه.
وقد رتب الشارع فائدتين عظيمتين على صلاة النوافل في البيوت دون المساجد، وهما:
من فوائد صلاة النافلة في البيوت:
الفائدة الأولى: مضاعفة الأجر والثواب، ويدل عليه:
1ـ حديث صهيب الرومي رضي الله عنه: أن رسول الله قال: "صلاة الرجل تطوعاً حيث لايراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمساً وعشرين" (12).
الفائدة الثانية: حصول الخير في البيوت، وحلول البركة، ويدل عليه:
حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً" (14).
فكونك ـ يا أخي ـ تصلي النافلة في البيت، هذا يعني إحياء البيت بذكر الله، وجعله عامراً بطاعته. تتنزل فيه الملائكة، وتحل فيه البركة والرحمة، مع ما يحصل لك من تعويد أهل البيت على الاجتهاد في العبادة، و تعلم كيفيتها إذا هم رأوك قدوة صالحة لهم.
وكثير من بيوت المسلمين في هذا الزمان تجأر إلى الله تعالى وتشكو إليه ظلم العباد .. ظلمهم بتركهم الصلوات وجلوسهم فيها عن الجماعات .. ظلمهم بارتكاب المنكرات، والخوض في المحرمات .. ظلمهم بهجرانهم ذكر الله فيها، واستئناسهم بمزامير الشيطان.
فشتان بين من جعل الله في بيته خيراً وبركة ورحمة وعافية، وبين من كان بيته شؤماً ونكداً وبلاءً عليه.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لايذكر الله فيه مثل الحي والميت" (15).
نسأل الله عز وجل أن يصلح لنا بيوتنا ومن فيها، وبيوت جيراننا وما يليها ... آمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الهوامش:
1ـ انظر (سير أعلام النبلاء) 12 - 395، وذكره الحافظ في الفتح 1 - 44 وقال: نقله اللالكائي في كتاب السنة بسند صحيح عن البخاري. أ. هـ.
¥