13 - ولأن الشمس لم يعلق لنا بها حساب شهر، ولا سنة، وإنما علق ذلك بالهلال، كما دلت عليه تلك الآية؛ ولأنه قد قال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، فأخبر أن الشهور معدودة اثنا عشر، والشهر هلالي بالاضطرار، فعلم أن كل واحد منها معروف بالهلال.
وقد بلغني أن الشرائع قبلنا ـ أيضا ـ إنما علقت الأحكام بالأهلة، وإنما بَدَّلَ من بَدَّلَ من أتباعهم، كما يفعله اليهود في اجتماع القرصين، وفي جعل بعض أعيادها بحساب السنة الشمسية، وكما تفعله النصاري في صومها حيث تراعي الاجتماع القريب من أول السنة الشمسية، وتجعل سائر أعيادها دائرة على السنة الشمسية بحسب الحوادث التي كانت للمسيح، وكما يفعله الصابئة والمجوس وغيرهم من المشركين في اصطلاحات لهم، فإن منهم من يعتبر بالسنة الشمسية فقط، ولهم اصطلاحات في عدد شهورها؛ لأنها وإن كانت طبيعية، فشهرها عددي وضعي. ومنهم من يعتبر القمرية لكن يعتبر اجتماع القرصين، وما جاءت به الشريعة هو أكمل الأمور وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها من الاضطراب. (25/ 135)
14 - إذا انصرم الشتاء، ودخل الفصل الذي تسميه العرب الصيف، ويسميه الناس الربيع؛ كان وقت حصول الشمس في نقطة الاعتدال الذي هو أول الحمل، وكذلك مثله في الخريف، فالذي يدرك بالإحساس الشتاء والصيف، وما بينهما من الاعتدالين تقريبًا، فأما حصولها في بُرْج بعد بُرْج فلا يعرف إلا بحساب فيه كلفة وشغل عن غيره، مع قلة جدواه.
فظهر أنه ليس للمواقيت حد ظاهر عام المعرفة إلا الهلال. (25/ 137)
15 - وقد انقسمت عادات الأمم في شهرهم وسنتهم القسمة العقلية؛ وذلك أن كل واحد من الشهر والسنة، إما أن يكونا عدديين، أو طبيعيين، أو الشهر طبيعيا، والسنة عددية، أو بالعكس.
فالذين يعدونهما، مثل من يجعل الشهر ثلاثين يومًا، والسنة اثني عشر شهرًا، والذين يجعلونهما طبيعيين، مثل من يجعل الشهر قمريا، والسنة شمسية، ويلحق في آخر الشهور الأيام المتفاوتة بين السنتين، فإن السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يومًا، وبعض يوم خمس أو سدس، وإنما يقال فيها: ثلاثمائة وستون يومًا جبرًا للكسر في العادة ـ عادة العرب في تكميل ما ينقص من التاريخ في اليوم والشهر والحول.
وأما الشمسية، فثلاثمائة وخمسة وستون يومًا، وبعض يوم، ربع يوم ....
ومراعاة هذين عادة كثير من الأمم، من أهل الكتابين بسبب تحريفهم، وأظنه كان عادة المجوس ـ أيضًا.
وأما من يجعل السنة طبيعية، والشهر عدديا، فهذا حساب الروم والسريانيين والقبط ونحوهم من الصابئين والمشركين، ممن يعد شهر كانون ونحوه عددًا، ويعتبر السنة الشمسية بسير الشمس.
فأما القسم الرابع، فبأن يكون الشهر طبيعيا، والسنة عددية، فهو سنة المسلمين ومن وافقهم، ثم الذين يجعلون السنة طبيعية لا يعتمدون على أمر ظاهر كما تقدم، بل لابد من الحساب والعدد، وكذلك الذين يجعلون الشهر طبيعيا، ويعتمدون على الاجتماع لابد من العدد والحساب، ثم ما يحسبونه أمر خفي ينفرد به القليل من الناس، مع كلفة ومشقة وتعرض للخطأ.
فالذي جاءت به شريعتنا أكمل الأمور؛ لأنه وقت الشهر بأمر طبيعي ظاهر عام يدرك بالأبصار، فلا يضل أحد عن دينه، ولا يشغله مراعاته عن شيء من مصالحه، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه، ولا يكون طريقًا إلى التلبيس في دين الله ـ كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم ...
فظهر ـ بما ذكرناه ـ أنه بالهلال يكون توقيت الشهر والسنة، وأنه ليس شيء يقوم مقام الهلال البتة لظهوره وظهور العدد المبني عليه، وتيسر ذلك وعمومه، وغير ذلك من المصالح الخالية عن المفاسد.
ومن عرف ما دخل على أهل الكتابين والصابئين والمجوس، وغيرهم في أعيادهم وعباداتهم وتواريخهم وغير ذلك من أمورهم من الاضطراب والحرج، وغير ذلك من المفاسد؛ ازداد شكره على نعمة الإسلام، مع اتفاقهم أن الأنبياء لم يشرعوا شيئًا من ذلك، وإنما دخل عليه م ذلك من جهة المتفلسفة الصابئة الذين أدخلوا في ملتهم، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله. (25/ 137)
¥