ومنهم من يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا لا يعرف في شيء من كتب الإسلام، ولا رواه عالم قط أنه قال: (يوم صومكم يوم نحركم). وغالب هؤلاء يوجبون أن يكون رمضان تامًا، ويمنعون أن يكون تسعة وعشرين ....
فأما الذين يعتمدون على حساب الشهور وتعديلها فيعتبرونها برمضان الماضي، أو برجب، أو يضعون جدولاً يعتمدون عليه، فهم مع مخالفتهم لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكتب ولا نحسب) إنما عمدتهم تعديل سير النيرين، والتعديل أن يأخذ أعلى سيرهما، وأدناه، فيأخذ الوسط منه ويجمعه. فهذه طريقة هؤلاء المبتدعة المارقين الخارجين عن شريعة الإسلام، الذين يحسبون ذلك الشهر بما قبله من الشهور، إما في جميع السنين أو بعضها، ويكتبون ذلك. (25/ 178)
27 - ولما كان الغالب على شهور العام أن الأول ثلاثون والثاني تسعة وعشرون؛ كان جميع أنواع هذا الحساب والكتاب مبنية على أن الشهر الأول ثلاثون، والثاني تسعة وعشرون، والسنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون، ويحتاجون أن يكتبوا في كل عدة من السنين زيادة يوم تصير فيه السنة ثلاثمائة وخمسة وخمسين يومًا، يزيدونه في ذي الحجة ـ مثلاً ـ فهذا أصل عدتهم، وهذا القدر موافق في أكثر الأوقات؛ لأن الغالب على الشهور هكذا، ولكنه غير مطرد، فقد يتوالي شهران وثلاثة وأكثر ثلاثين، وقد يتوالي شهران وثلاثة وأكثر تسعة وعشرين، فينتقض كتابهم وحسابهم، ويفسد دينهم الذي ليس بقيم، وهذا من الأسباب الموجبة لئلا يعمل بالكتاب والحساب في الأهلة. (25/ 181)
28 - وأما الفريق الثاني، فقوم من فقهاء البصريين ذهبوا إلى أن قوله: (فاقدروا له) تقدير حساب بمنازل القمر، وقد روي عن محمد بن سيرين قال: خرجت في اليوم الذي شك فيه، فلم أدخل على أحد يؤخذ عنه العلم إلا وجدته يأكل، إلا رجلاً كان يحسب ويأخذ بالحساب، ولو لم يعلمه كان خيرًا له. وقد قيل: إن الرجل مطرف بن عبدالله بن الشِّخِّير، وهو رجل جليل القدر، إلا أن هذا إن صح عنه فهي من زلات العلماء. وقد حكي هذا القول عن أبي العباس بن سريج ـ أيضًا ـ وحكاه بعض المالكية عن الشافعي: أن من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر لم يتبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة، وغُمَّ عليه جاز له أن يعتقد الصيام ويبيته ويجزئه، وهذا باطل عن الشافعي لا أصل له عنه، بل المحفوظ عنه خلاف ذلك كمذهب الجماعة، وإنما كان قد حكي ابن سُرَيج ـ وهو كان من أكابر أصحاب الشافعي ـ نسبة ذلك إليه؛ إذ كان هو القائم بنصر مذهبه.
واحتجاج هؤلاء بحديث ابن عمر في غاية الفساد، مع أن ابن عمر هو الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) فكيف يكون موجب حديثه العمل بالحساب؟! وهؤلاء يحسبون مسيره في ذلك الشهر وليإليه، وليس لأحد منهم طريقة منضبطة أصلاً، بل أية طريقة سلكوها، فإن الخطأ واقع فيها ـ أيضًا ـ فإن الله ـ سبحانه ـ لم يجعل لمطلع الهلال حسابًا مستقيمًا، بل لا يمكن أن يكون إلى رؤيته طريق مطرد إلا الرؤية، (25/ 181)
29 - لو رأى هلال شوال وحده، أو أخبره به جماعة يعلم صدقهم: هل يفطر أم لا؟
والثانية: لو رأى هلال ذي الحجة، أو أخبره جماعة ـ يعلم صدقهم ـ: هل يكون في حقه يوم عرفة، ويوم النحر هو التاسع، والعاشر بحسب هذه الرؤية التي لم تشتهر عند الناس؟ أو هو التاسع والعاشر الذي اشتهر عند الناس؟
فأما المسألة الأولى، فالمنفرد برؤية هلال شوال لا يفطر علانية باتفاق العلماء، إلا أن يكون له عذر يبيح الفطر كمرض وسفر، وهل يفطر سراً؟ على قولين للعلماء أصحهما لا يفطر سراً، وهو مذهب مالك، وأحمد في المشهور في مذهبهما.
وفيهما قول: إنه يفطر سراً كالمشهور في مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقد روى أن رجلين في زمن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ رأيا هلال شوال، فأفطر أحدهما، ولم يفطر الآخر، فلما بلغ ذلك عمر قال للذي أفطر: لولا صاحبك لأوجعتك ضرباً. (25/ 204)
30 - ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة: أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته).
والمعتمد على الحساب في الهلال، كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين، فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب؛ فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، وإنما غاية الحساب منهم إذا عدل أن يعرف كم بين الهلال والشمس من درجة وقت الغروب مثلا، لكن الرؤية ليست مضبوطة بدرجات محدودة، فإنها تختلف باختلاف حدة النظر وكلاله، وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال وانخفاضه، وباختلاف صفاء الجو وكدره. وقد يراه بعض الناس لثمان درجات، وآخر لا يراه لثنتي عشرة درجة؛ ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس الرؤية تنازعاً مضطرباً، وأئمتهم ـ كبطليموس ـ لم يتكلموا في ذلك بحرف؛ لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي.
وإنما يتكلم فيه بعض متأخريهم ـ مثل كوشيار الديلمي وأمثاله ـ لما رأوا الشريعة علقت الأحكام بالهلال، فرأوا الحساب طريقا تنضبط فيه الرؤية، وليست طريقة مستقيمة، ولا معتدلة، بل خطؤها كثير، وقد جرب، وهم يختلفون كثيراً: هل يرى أم لا يرى؟ (25/ 207)
¥