تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ورأى أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة "كريب" لم يورد ابن عباس فيه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا معنى لفظه حتى يمكن النظر في عمومه وخصوصه، وعليه فلا يفيد المرفوع منه سوى مطابقة معناه لحديث: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) وما زاد عنه فهو اجتهاد محض في مقابلة النصوص الصريحة، وحال تعارض النص والأثر فالحجة في صريح قوله صلى الله عليه وسلم لا في اجتهاد الصحابي ونظره، فلم يبق مُتمسَّك لهم في حديث "كريب" في تقرير اعتبار المطالع سواء تقاربت البلدان أو تباعدت، فثبت -عندهم- وجوب الصوم على المسلمين كافة لتحقق مناطه وهو مطلق الرؤية.

وفي تقديري أن الأصل العام الثابت الذي نهضت به الأدلة يقضي بوجوب أن يعمل أهل البلدان سواء كانت متقاربة أم متباعدة بعضهم بخبر بعض وشهادته في جميع الأحكام الشرعية كحلول الدَّين ووقوع الطلاق والعتاق ووجوب النذر، والرؤية من جملتها، ذلك لأن العبرة بثبوت الشهر نفسه بمطلق الرؤية في قوله تعالى: ?فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ? [البقرة:185] وأن شهود الشهر والتماس الرؤية فيه على الكفاية وقد علق الشارع عموم حكم الصيام والإفطار أيضا بمطلق الرؤية في قوله صلى الله عليه وسلم:" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له" (10) فهو يُجْرَى على إطلاقه ويصدق برؤية البعض، ذلك لأن المطلق يتحقق في أي فرد من أفراده الشائعة في جنسه بمعنى أن عمومه بدلي لا شمولي كما هو مقرَّر أصوليا، فكأن صيغة الحديث وردت بهذا اللفظ:" صوموا وأفطروا إذا تحققت رؤية الهلال" أي مهما كان موقعها من القرب والبعد جريا على قاعدة أن"المطلق يُجْرَى على إطلاقه ما لم يرد ما يقيده"، فاستوى القرب والبعد بين البلدان في مطلق الرؤية التي تُعَدُّ علة الحكم، وعليه فإن اشتراط التباعد بين الأقطار تقييد وزيادة على النص يفتقر إلى دليل يقويه، وإذا انتفى عن الآية والحديث ما يقيدهما وجب العمل بإطلاقه، ومنه يتبين أن لا عبرة في اختلاف المطالع ووجوبُ صومه على الجميع بشهادة البعض المعتبر شرعا، إذ لا يخفى أن انعقاد الشهر إنما يثبت برؤية هلاله، وولادة الشهر لا تتعدد لوجود محله بين هلالين:الأول من ليلة رمضان، والأول من ليلة شوال، فإذا ثبتت ولادة الشهر برؤية الثقات في أول ليلة منه بمطلق الرؤية ثبت -عندئذ- انعقاده وتعلق وجوب الصيام به.

هذا ولا يمكن التمسك برواية ابن عمر رضي الله عنهما في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تصوموا حتى تروا الهلال ... " في تقييد الإطلاق الوارد في حديث:" صوموا لرؤيته" لأن ذلك إنما يصح التقييد به لو كان الخطاب فيه مختصا بكل قوم في بلدهم وليس الأمر كذلك لأن الخطاب الشرعي عام موجَّه إلى كافة المخاطبين ربطه الشارع بمطلق الرؤية، فكان محتوى الحديثين متحدا منطوقا ومفهوما لا اختلاف بينهما من حيث الإطلاق، بل الاستدلال بنص رواية ابن عمر مرفوعا:" لا تصوموا حتى تروا الهلال ... " على العموم أولى منه على تخصيص الرؤية بكل قوم في بلدهم على انفراد ولا إلى فرد بخصوصه، ذلك لأن معنى شهود الشهر في الآية حضوره والعلم به لا رؤية هلاله، لذلك كان خبر البعض المعتبر الذي رآه ملزما لسائرهم فرؤية البعض رؤية لهم، إذ يلزم على العمل بظاهر الآية والحديث عدمُ الاعتداد برؤية البعض إلا إذا رأى كل فرد بعينه، وهذا الحكم يأباه الشرع والإجماع، إذ من المقرر اتفاقا أن ليس كل فرد من المسلمين مكلفا برؤية الهلال، ولا معلقا بوجوب صومه على رؤيته هو بمفرده، بل التماس الرؤية فرض على الكفاية لا واجب عيني، ولذا يثبت الصوم برؤية البعض المعتبر وشهادته، وعليه فالاستدلال بنصِّ الروايتين المتقدمتين على التعميم أظهر منه على التخصيص.

أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقصته مع "كريب" فجوابه من وجوه:

أولا: أنه خبر الواحد وهو غير كاف في شهادة الصوم، فلو تقوّى الخبر بمزيد من الرواة لأخذ به ابن عباس رضي الله عنهما ولاعتمد على رؤية الشام.

وهذا الجواب ليس بالقويّ لأن ما أفصح به "كريب" ليس بشهادة منه حتى يرفض ابن عباس ما أخبره به، وإنما هو خبر عن حكم بشهادة معتبرة واستفاض في الناس حتى بلغ التواتر وخبر الواحد في ذلك مقبول اتفاقا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير