وبلغ اهتمام العرب بالدراسات السيميائية مبلغاً، خصّوا فيه الحقول الدلالية بعلامات معينة، تعرف بها، ويتواصل عبرها. من أبرزها ميدان الحب، الذي أجملوا علاماته، بعدما كانت أشتاتاً متفرقات، تنقل على كل شفة ولسان. عقد ابن قيم الجوزية باباً أسماه ((في علامات المحبة وشواهدها))، يستدل بها عليها، منها: إدمان النظر إلى الشيء وإقبال العين عليه، وإغضاؤه عند نظر محبوبه إليه ورميه بطرْفِهِ نحو الأرض، وذلك من مهابته له، وحياؤه منه وعظمته في صدره، ومها أيضاً كثرة ذِكْر المحبوب واللهج بذكره وحديثه، والانقياد لأمر المحبوب وإيثارُهُ على مراد المحب، وقلة صبر المحبّ عن المحبوب، والإقبال على حديثه وإلقاء سمعه كلِّه إليه ([ xxiii]).. وهي علامات نفذ فيها ابن قيم الجوزية إلى أعماق النفس، واستخرج دفائنها وأتى بكنوزها وكشف عن خفاياها كأعظم ما يأتيه المحلل النفسي اليوم، يشهد له حديثه في أحد العلامات، قال: .. ومنها البَهَتُ والروعة التي تحصل عند مواجهة الحبيب ([ xxiv]) أو عند سماع ذكره، ولا سيما إذا رآه فجأةً أو طلع بغتةً، كما يقول الشاعر: [من الطويل]
فَمَا هُوَ إِلاَّ أنْ أرَاهَا فُجَاءَةً
فَأَبْهَتُ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ
فَأَرْجِعُ عَنْ رَأْيي الّذِي كانَ أوَلاً
وأَذْكُر مَا أعْدَدْتُ حِينَ تغيبُ
وربما اضطرب عند سماع اسمه فجأةً .. وقد اخْتُلِفَ في سبب هذه الرَّوْعَة والفزع والاضطراب، قيل: سببه أن للمحبوب سلطاناً على قلب محبه أعظم من سلطان الرعيَّة، فإذا رآه فجأةً راعه ذلك ما يرتاع مَنْ يرى مَنْ يُعَظِّمُهُ فجأة، فإن القلب معظِّمٌ لمحبوبه خاضع له، والشخص إذا فجِئه المعظَّم عنده راعه ذلك. وقيل: سببه انفراج القلب له، ومبادرته إلى تلقِّيه فيهرب الدم منه فيبرد ويرعد ويحدث الاصفرار والرِّعدة ..
واتسعت ملاحظات علماء العربية لتشمل ميادين أخرى، منها معرفة الكاذب من المنافق بعلامات، كنبرة الصوت، وإيقاع كلامه، يؤازره قوله جلّ اسمه: {فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} [محمد:30]. وفيه دلالة بليغة، تحمل العلامة ((سيماهم)) وآلتها ((لحن القول)). واختلاف النغمات والأصوات تبعاً لاختلاف المقاصد والأغراض مبدأ معروف عند علماء العربية. أشار الأصفهاني إليه بقوله:
(( .. فاختلاف الألسنة إشارة إلى اختلاف اللغات وإلى اختلاف النَّغَمات، فإنّ لكل إنسان نغمة مخصوصة يميّزها السَّمْع كما أن له صورة مخصوصة يميّزها البصر)) ([ xxv]).
حكت المظاهر المتقدمة، معرفة علماء العربية بعِلْم العلامات (السيمياء)، ووضع أصوله، واعتماده في سلوكهم التعبيري. ولا أدل على حذقهم له، وسبقهم إليه من ركيزة واحدة تتمثل في استعمال مصطلحاته، وهي:
1 - ((السيمياء)) بمعناه اللغوي المقابل ((للعلامات)) مصطلح عربي، استعمل في الميدان اللغوي المتداول اليوم، يشهد له قول الراغب الأصفهاني (ت 502هـ/1108م) في أثناء تفسيره الآية الكريمة: {وَمِنْهُ شجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل:10]، قال: .. والسِّيماء والسِّيمياءُ العلامة، قال الشاعر: [من الطويل]
لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ ([ xxvi])
2- اللسانية ( Linguistic) أو الألسنية بحسب المترجمين، مصطلح عربي معروف في حقل الدراسات اللغوية، كما هو معروف اليوم. من شواهد استعماله ما أورده القرطبي (ت 671/ 11273م) في تفسيره، قال: سمّى الرسول r الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سِحْراً. وفي الموضع نفسه، قال في معرض تفسيره حديث الرسول r (( إن من البيان لسِحْراً)): فالرجل يكون عليه الحق وهو ألْحَنُ بالحجج من صاحب الحق فيَسْحَر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللِّسانة ما لم يخرج إلى حدّ الإسهاب والإطناب ([ xxvii])..
¥