نعم , لقد شكك في دلالة الحديث على الدخول بإشارته إلى الخلاف الواقع في الروايات , و قد ذكرت لفظين منها آنفا. و لكن ليس يخفى على طلاب هذا العلم المخلصين أنه ليس من العلم في شيء أن تضرب الروايات المختلفة بعضها ببعض , و إنما علينا أن نأخذ منها ما اتفق عليه الأكثر , و إن مما لا شك فيه أن اللفظ الأول: " اخرج " أصح من الآخر " اخسأ " , لأنه جاء في خمس روايات من الأحاديث التي ساقها , و اللفظ الآخر جاء في روايتين منها فقط! على أني لا أرى بينهما خلافا كبيرا في المعنى , فكلاهما يخاطب بهما شخص , أحدهما صريح في أن المخاطب داخل المجنون , و الآخر يدل عليه ضمنا.
و إن مما يؤكد أن الأول هو الأصح صراحة حديث الترجمة الذي سيكون القاضي بإذن الله على كتاب " الاستحالة " المزعومة , مع ما تقدم من البيان أنها مجرد دعوى في أمر غيبي مخالفة للمنهج الذي سبق ذكره.
و لابد لي قبل ختم الكلام على هذا الموضوع أن أقدم إلى القراء الكرام و لو مثالا واحد على الجهل بالسنة الذي وصفت به الرجل فيما تقدم , و لو أنه فيما سلف كفاية للدلالة على ذلك! لقد ذكر الحديث المشهور في النهي عن اتباع سنن الكفار بلفظ لا أصل له رواية و لا دراية , فقال (ص 27): " و صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: " لتتبعن من قبلكم من الأمم حذاء القذة بالقذة , حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم. قالوا: اليهود و النصارى يا رسول الله ? قال: فمن ? ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم "!
و مجال نقده في سياقه للحديث هكذا واسع جدا , و إنما أردت نقده في حرف واحد منه أفسد به معنى الحديث بقوله (حذاء) , فإن هذا تحريف قبيح للحديث لا يخفى على أقل الناس ثقافة , و الصواب (حذو). و ليس هو خطأ مطبعيا كما قد يتبادر لأذهان البعض , فقد أعاده في مكان آخر. فقال (ص 34) مقرونا بخطأ آخر: " حذاء القذة بالقذة "! كذا ضبطه بفتح القاف! و إنما هو بالضم. و نحو ذلك مما يدل على جهله بالسنة قوله (ص 240): " يقول السلف: ليس الخبر كالمعاينة ". و هذا حديث مرفوع رواه جماعة من الأئمة منهم أحمد عن ابن عباس مرفوعا , و فيه قصة. و هو مخرج في " صحيح الجامع الصغير " (5250).
و من أمثلة جهله بما يقتضيه المنهج السلفي أنه حشر (ص 74) في زمرة التفاسير المعتبرة " تفسير الكشاف " , و " تفسير الفخر الرازي " , فهل رأيت أو سمعت أثريا يقول مثل هذا , فلا غرابة بعد هذا أن ينحرف عن السنة , متأثرا بهما و يفسر آية الربا تفسيرا مجازيا!
و أما أخطاؤه الإملائية الدالة على أنه (شبه أمي) فلا تكاد تحصى , فهو يقول في أكثر من موضع: " تعالى معي "! و قال (ص 131): " ثم تعالى لقوله تعالى " , و ذكر آية. و في (ص 129): " فمن المستحيل أن تفوت هذه المسألة هذان الإمامان الجليلان "! و (ص 130). " أضف إلى ذلك أن الإمامين ليسا طبيبان "! فهو يرفع المنصوب مرارا و تكرارا.
و في الختام أقول: ليس غرضي مما تقدم إلا إثبات ما أثبته الشرع من الأمور الغيبية , و الرد على من ينكرها. و لكنني من جانب آخر أنكر أشد الإنكار على الذين يستغلون هذه العقيدة , و يتخذون استحضار الجن و مخاطبتهم مهنة لمعالجة المجانين و المصابين بالصرع , و يتخذون في ذلك من الوسائل التي تزيد على مجرد تلاوة القرآن مما لم ينزل الله به سلطانا , كالضرب الشديد الذي قد يترتب عليه أحيانا قتل المصاب , كما وقع هنا في عمان , و في مصر , مما صار حديث الجرائد و المجالس.
لقد كان الذين يتولون القراءة على المصروعين أفرادا قليلين صالحين فيما مضى , فصاروا اليوم بالمئات , و فيهم بعض النسوة المتبرجات , فخرج الأمر عن كونه وسيلة شرعية لا يقوم بها إلا الأطباء عادة , إلى أمور و وسائل أخرى لا يعرفها الشرع و لا الطب معا , فهي - عندي - نوع من الدجل و الوساوس يوحي بها الشيطان إلى عدوه الإنسان * (و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) * , و هو نوع من الاستعاذة بالجن التي كان عليها المشركون في الجاهلية المذكورة في قوله تعالى: * (و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) *. فمن استعان بهم على فك سحر - زعموا - أو معرفة هوية الجني المتلبس بالإنسي أذكر هو
¥