وهنا ينبغي أن نعلم أن مصطلح (فقه الأقليات) يراد به مجموع الأحكام الفقهية المتعلقة بمن يعيش من المسلمين في بلاد الكفر ويحملون جنسية تلك البلاد في الغالب، وهم فيها قلّة بالنسبة لغيرهم؛ لتشابه الإشكالات واتفاق الكثير من الأحكام في العلل والمؤثرات؛ فهو جزء وفرع من فروع الفقه الإسلامي العام.
وتخصيص مجموعة من الأحكام الفقهية بلقب معين، إفراد وتخصيص له، يقصد منه جمع شتات مسائله، وحصر ما يتعلق به لمزيد من التعمق في دراسته وتيسير الوصول إلى مسائله، وهذا الإفراد والتخصيص لنوع من المسائل، مما درج عليه الفقهاء على مرّ العصور؛ ومن ذلك تخصيصهم لبعض المسائل بلقب يفردها، مثل قولهم: علم (الفرائض) جمعا لفقه المواريث، و (الأموال) جمعا لفقه مسائل النظام المالي في الإسلام، و (الأحكام السلطانية)، جمعا لمسائل الولاية العظمى وما يتفرع عنها من الولايات ووظائف السياسة ونحوها.
وليس الغرض من إفراد فقه الأقليات كونها مما يتغير حكمه لتغير علته فقط، فإن هذا الوصف ينطبق على مسائل فقهية كثيرة تقع في دار الإسلام وغيرها، ويجمعها ما يعرف بالأحكام المعلَّلة والمقدّرة.
ولذا فإنَّ جواب سؤالك يتضح – إن شاء الله تعالى - ببيان ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنَّ الحكم الشرعي ذاته ثابت لا يتغيّر متى اتفقت صور مسائل واتحد مناطها؛ وإنَّما قد يتغير مناط الحكم تبعاً لتغير الصور أو دخول العوارض المعتبرة في الشرع، ومن ثمَّ تتغيّر الفتاوى عند تنزيلها على المسائل والوقائع، تبعاً لذلك.
الأمر الثاني: أنَّ الأحكام الشرعية والتكاليف والمبادئ الإسلامية، هي هي، في أي مكان وفي أي زمان، سواء كانت دار حرب أو دار إسلام، فالحرام هو الحرام والحلال هو الحلال، فالكذب والغش والخيانة والربا وغيرها محرمات، لا يختلف حكمها من بلد إلى بلد، وهكذا القيام بالعبادات والالتزامات، والوفاء بالعهد وأداء الأمانة والصدق والمعاملة المشروعة، كلها تكاليف شرعية لا يختلف حكمها، لاختلاف مكان أو زمان.
وأما ما جاء في بعض المذاهب الفقهية من جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب مع الحربيين، فقول ضعيف مردود بنصوص الكتاب والسنة؛ وإذا لم نجد في الشرع دليلا على الفرق بين الحكم الشرعي في بلد الإسلام وغيره، فمن أين لنا التفريق بينهما!
نعم قد يختلف حكم مسألة في بلد عن حكمها في بلد آخر، ولكن سبب ذلك لا يعود لكونها دار كفر أو دار إسلام فقط، وإنما يختلف – كما سبق - باختلاف المناط (علة الحكم التي يدور الحكم معها وجودا وعدما)، وهذا المناط ربما يختلف في بلاد الإسلام نفسها فنجد الحكم الشرعي المبني على العرف مثلا، يختلف الحكم في تطبيقه بين بلدين من بلاد الإسلام، ومنه بعض ما ورد عن الشافعي _رحمه الله_ من اختلاف آرائه الفقهية بين العراق ومصر.
وإذا أردتَ تقريبا للمسألة، فيمكنك استذكار حكم الصلاة، وعددها، فصلاة الفريضة واجبة في الحضر والسفر، وفي بلد الإسلام وغيره. ولكن العدد يختلف في بعض الصلوات في حال السفر، سواء كان ذلك داخل دار الإسلام أو خارجها، فعندما يقصر مسافر من الجالية الإسلام في بلد كفر بسبب سفره بين مدينتين في تلك البلاد، فإن هذا لا يعني أن السبب هو كونه في بلد الكفر، وإنما علة القصر كونه مسافرا، سواء كان ذلك في بلد الكفر أو غيره، فهو كما لو سافر بين مكة والمدينة مثلا.
ولكن قد توجد بعض العلل التي تؤثِّر في أحكام بعض المسائل في بلد الكفر أكثر من تأثيرها في غيره لمزيد تكررها فيه، أو توجد فيه فقط مما يقتضي إعمال قواعد شرعية من مثل قاعدة إزالة الضرر والاضطرار، أو قاعدة المشقة تجلب التيسير، والعادة محكّمة، ونحو ذلك وفق ضوابطها الشرعية، وحينئذ فإنَّ الحكم الشرعي للمسألة واحد، لكن سببه وجد في ذلك المكان بوصفه نازلة لم تصل بعد إلى دار الإسلام، ولو فرضنا أن السبب ذاته وجد - كما هو - في دار الإسلام فإن ذات الحكم حينئذ لن يتغير عنه هناك.
الأمر الثالث: مما ينبغي العناية به والتنبّه له في هذا الشأن، وجود أكثر من خمسين مليون مسلم يحملون جنسيات بلاد ليست إسلامية، بل هي في المصطلح الفقهي المتفق عليه بين فقائنا - رحمهم الله - (دار كفر) ويعيشون فيها ولادة أو انتقالا إليها من بلاد المسلمين تحت مسمى الهجرة الدارج. ومثل هذا الواقع هو في حد ذاته نازلة تتطلب مراعاة النظر فيها عند تنزيل الأحكام على الوقائع، من جهة تحقيق المناط علة ومقصدا. ومن هنا جمع بعض الفقهاء جملة من خصائص فقه الجاليات، التفاتاً إلى هذا المعنى، وهو أمر مقبول ما لم يكن فيه تجاوز للأمرين السابقين، والله تعالى أعلم.
ومن هنا نجد الفقهاء الحاذقين لا يفتون من يعيشون في تلك الديار أو يريدون العيش فيها عيشا دائما، بأحكامٍ عامة، بل يستفصلون من السائل ويطلبون منه إيضاح بعض الأمور، فمن يسألهم عن حكم التجنس بجنسية بلد كفر فإنهم لا يفتونه بالجواز أو عدمه مباشرة، ولكنهم يسألونه عن جوانب مهمة مؤثِّرة في الحكم، فإذا تبين لهم حاله، أفتوه بما ينطبق عليها من الأحكام الفقهية من وجهة نظرهم الشرعية.
وخلاصة القول أن الحكم الشرعي ثابت متى اتحدت صورة المسألة وعلة الحكم، سواء كان ذلك في دار إسلام أو دار كفر، ومتغير عند تغير المناط سواء كان ذلك في دار إسلام أو دار كفر، بمعنى أنّ المسألة محلّ التطبيق يختلف حكمها باختلاف مناط الحكم فيها لا لكون المخاطب بها أقلية مسلمة تعيش في ظل دولة كفر، أو أكثرية مسلمة تعيش في ظل دولة إسلام.
وثمة تفصيلات أخرى تتعلق بوجود أحكام نظر فيها إلى مؤثِّرات في الحكم، من مثل النهي الوارد في منع قطع السارق في الغزو، دفعا لما قد يترتب على ذلك من مفاسد.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله.
¥