وهنا نكتة بديعة ينبغي التفطن لها، وهي أن السلام شرع على الأحياء والأموات بتقديم اسمه على المسلم عليهم، لأنه دعاء بخير، والأحسن في دعاء الخير أن يتقدم الدعاء به على المدعو له، كقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْت} [هود: 73]، وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109]، {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} [الصافات: 79]، {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130]، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24]،
393
وأما الدعاء بالشر فيقدم فيه المدعو عليه على المدعو به غالباً كقوله تعالى لإبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} [ص: 78]، وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَة} [الحجر: 35]، وقوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98]، وقوله: {وَعَلَيْهِمْ غَضَب} [الشورى: من الآية16] وسر ذلك -والله أعلم- أن في الدعاء بالخير قدموا اسم الدعاء المحبوب الذي تشتهيه النفوس، وتطلبه ويلذ للسمع لفظه، فيبدأ السمع بذكر الاسم المحبوب المطلوب، ويبدأ القلب بتصوره فيفتح له القلب والسمع، فيبقى السامع كالمنتظر لمن يحصل هذا، وعلى من يحل، فيأتي باسمه فيقول: عليك أو لك، فيحصل له من السرور والفرح ما يبعث على التحاب والتواد والتراحم، الذي هو المقصود بالسلام.
وأما في الدعاء عليه ففي تقديم المدعو عليه إيذان باختصاصه بذلك الدعاء، وأنه عليه وحده، كأنه قيل له: هذا عليك وحدك لا يشركك فيه السامعون بخلاف الدعاء بالخير، فإن المطلوب عمومه، وكل ما عم به الداعي كان أفضل.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_ يقول: فضل عموم الدعاء على خصوصه كفضل السماء في الأرض.
وذكر في ذلك حديثاً مرفوعاً عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو يدعو فقال: ، وفيه فائدة ثانية أيضاً: وهي أنه في الدعاء عليه إذا قال له: عليك، انفتح سمعه وتشوف قلبه إلى أي شيء يكون عليه فإذا ذكر له اسم المدعو به صادف قلبه فارغاً متشوفاً لمعرفته فكان أبلغ في نكايته، ومن فهم هذا فهم السر في حذف الواو في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، ففاجأهم وبغتهم عذابها، وما أعد الله فيها فهم بمنزلة من وقف على باب لا يدري بما يفتح له من أنواع الشر، إلا أنه متوقع منه شراً عظيماً ففتح في وجهه وفاجأه ما كان يتوقعه، وهذا كما تجد في الدنيا من يساق إلى السجن فإنه يساق إليه وبابه مغلق، حتى إذا جاءه فتح الباب في وجهه، ففاجأته روعته وألمه بخلاف ما لو فتح له قبل مجيئه.
وهذا بخلاف أهل الجنة فإنهم لما كانوا مساقين إلى دار الكرامة، وكان من تمام إكرام المدعو الزائر أن يفتح له باب الدار فيجيء فيلقاه مفتوحاً، فلا يلحق ألم الانتظار فقال في أهل الجنة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، وحذف الجواب تفخيماً لأمره وتعظيماً لشأنه على عادتهم في حذف الجوابات لهذا المقصد.
394
وهذه الطريقة تريحك من دعوى زيادة الواو، ومن دعوى كونها واو الثمانية، لأن أبواب الجنة ثمانية، فإن هذا لو صح فإنما يكون إذا كانت الثمانية منسوقة في اللفظ واحداً بعد واحد، فينتهون إلى السبعة، ثم يستأنفون العدد من الثمانية بالواو، وهنا لا ذكر للفظ الثمانية في الآية ولا عدها ... فتأمله.
على أن في كون الواو تجيء للثمانية كلام آخر قد ذكرناه في (الفتح المكي) وبينا المواضع التي ادعى فيها أن الواو للثمانية، وأين يمكن دعوى ذلك؟ وأين يستحيل؟
فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بأن سيد الخلائق صلى الله عليه وسلم يأتي باب الجنة فيلقاه مغلقاً حتى يستفتحه.
قلنا: هذا من تمام إظهار شرفه وفضله على الخلائق، أن الجنة تكون مغلقة فلا تفتح لأهلها إلا على يديه، فلو جاءها وصادفها مفتوحة فدخلها هو وأهلها لم يعلم الداخلون أن فتحها كان على يديه وأنه هو الذي استفتحها لهم.
¥