فالشريعة هي حياة القلوب، وبهجة النفوس ولذة الأرواح، والمشقة الحاصلة فيها والتكليف وقع بالقصد الثاني كوقوعه في الأسباب المفضية إلى الغايات المطلوبة لا أنه مقصود لذاته فضلاً عن أن يكون هو المقصود لا سواه. فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من الفكر في مصادرها ومواردها يفتح لك باباً واسعاً من العلم والإيمان. فتكون من الراسخين في العلم لا من الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
وكما أنها آية شاهدة له على ما وصف به نفسه من صفات الكمال، فهي آية شاهدة لرسوله بأنه رسوله حقاً، وأنه أعرف الخلق وأكملهم وأفضلهم وأقواهم إلى الله وسيلة، وأنه لم يؤت عبد مثل ما أوتي، فوا لهفاه على مساعد على سلوك هذه الطريق، واستفتاح هذا الباب والإفضاء إلى ما وراءه ولو بشطر كلمة، بل: وا لهفاه على من لا يتصدى لقطع الطريق والصد عن هذا المطلب العظيم، ويدع المطي وحاديها، ويعطي القوس باريها.
ولكن إذا عظم المطلوب قل المساعد وكثر المعارض والمعاند، وإذا كان الاعتماد على مجرد مواهب الله وفضله يغنيه ما يتحمله المتحمل من أجله، فلا يثنك شنآن من صد عن السبيل وصدف، ولا تنقطع مع من عجز عن مواصلة السير ووقف، فإنما هي مهجة واحدة فانظر فيما تجعل تلفها وعلى من تحتسب خلفها:
أنت القتيل بكل من أحببته=== فانظر لنفسك في الهوى من تصطفي
وأنفق أنفاسك فيما شئت فإن تلك النفقة مردودة بعينها عليك وصائرة لا سواها إليك وبين العبد وبين السعادة والفلاح صبر ساعة لله وتحمل ملامة في سبيل الله:
وما هي إلا ساعة ثم تنقضي=== ويذهب هذا كله ويزول
وقد أطلنا ولكن ما أمللنا، فإن قلباً فيه أدنى حياة يهتز إذا ذكر الله ورسوله، ويود أن لو كان المتكلم كله ألسنة تالية، والسامع كله آذاناً واعية، ومن لم يجد قلبه، ثم فليشتغل بما يناسبه فكل ميسر لما خلق له و (كل يعمل على مشاكلته).
وكل امرىء يهفو إلى من يحبه=== وكل امرىء يصبو إلى ما يناسبه
399
فصل: لماذا كانت نهاية (السلام) عند قوله: {وبركاته}
وقد عرفت بهذا جواب السؤال الحادي والعشرون، وأن كمال التحية عند ذكر البركات إذ قد استوعبت هذه الألفاظ الثلاث جميع المطالب من دفع الشر، وحصول الخير وثباته وكثرته ودوامه. فلا معنى للزيادة عليها ولهذا جاء في الأثر المعروف انتهى السلام إلي وبركاته.
فصل: إضافة الرحمة لله وتجريد السلام عن الإضافة
وأما السؤال الثاني والعشرون: وهو ما الحكمة في إضافة الرحمة والبركة إلى الله تعالى وتجريد السلام عن الإضافة؟
فجوابه: أن السلام لما كان اسماً من أسماء الله تعالى استغنى بذكره مطلقاً عن الإضافة إلى المسمى، وأما الرحمة والبركة فلو لم يضافا إلى الله لم يعلم رحمة من، ولا بركة من تطلب.
فلو قيل: عليكم ورحمة وبركة، لم يكن في هذا اللفظ إشعار بالراحم المبارك الذي تطلب الرحمة والبركة منه. فقيل: رحمة الله وبركاته.
وجواب ثان: أن السلام يراد به قول المسلم: سلام عليكم، وهذا في الحقيقة مضاف إليه ويراد به حقيقة السلامة المطلوبة من السلام سبحانه وتعالى، وهذا يضاف إلى الله فيضاف هذا المصدر إلى الطالب الذاكر تارة، وإلى المطلوب منه تارة، فأطلق ولم يضف.
وأما الرحمة والبركة فلا يضافان إلا إلى الله وحده، ولهذا لا يقال: رحمتي وبركتي عليكم، ويقال: سلام مني عليكم وسلام من فلان على فلان.
وسر ذلك: أن لفظ السلام اسم للجملة القولية، بخلاف الرحمة والبركة، فإنهما اسمان لمعناهما دون لفظهما ... فتأمله فإنه بديع.
وجواب ثالث: وهو أن الرحمة والبركة أتم من مجرد السلامة، فإن السلامة تبعيد عن الشر، وأما الرحمة والبركة فتحصيل للخير وإدامة له وتثبيت وتنمية، وهذا أكمل فإنه هو المقصود لذاته والأول وسيلة إليه، ولهذا كان ما يحصل لأهل الجنة من النعيم أكمل من مجرد سلامتهم من النار، فأضيف إلى الرب تبارك وتعالى أكمل المعنيين وأتمهما لفظاً،
400
وأطلق الآخر وفهمت إضافة إليه من العطف وقرينة الحال، فجاء اللفظ على أتم نظام وأحسن سياق.
فصل: الحكمة في إفراد السلام والرحمة وجمع البركة
¥