وأما السؤال الثالث والعشرون: وهو ما الحكمة في إفراد السلام والرحمة وجمع البركة؟ فجوابه: إن السلام إما مصدر محض فهو شيء واحد فلا معنى لجمعه، وإما اسم من أسماء الله، فيستحيل أيضاً جمعه، فعلى التقديرين لا سبيل إلى جمعه.
وأما الرحمة فمصدر أيضاً بمعنى العطف والحنان فلا تجمع أيضاً والتاء فيها بمنزلتها في الخلة والمحبة، والرقة ليست للتحديد بمنزلتها في ضربة وتمرة. فكما لا يقال: رقات ولا خلات ولا رأفات، لا يقال: رحمات وهنا دخول الجمع يشعر بالتحديد والتقييد بعدد وإفراده يشعر بالمسمى مطلقاً من غير تحديد، فالإفراد هنا أكمل وأكثر معنى من الجمع، وهذا بديع جداً أن يكون مدلول المفرد أكثر من مدلول الجمع.
ولهذا كان قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149]، أعم وأتم معنى من أن يقال: فلله الحجج البوالغ وكان قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]. أتم معنى من أن يقال: وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها وقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَة} [البقرة: 201]، أتم معنى من أن يقال: حسنات. وكذا قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 171]، ونظائره كثيرة جداً، وسنذكر سر هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما البركة فإنها لما كان مسماها كثرة الخير واستمراره شيئاً بعد شيء كلما انقضى منه فرد خلفه فرد آخر، فهو خير مستمر بتعاقب الأفراد على الدوام شيئاً بعد شيء كان لفظ الجمع أولى بها لدلالته على المعنى المقصود بها، ولهذا جاءت في القرآن، كذلك في قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُم} [هود: 73]، فأفرد الرحمة وجمع البركة، وكذلك في السلام في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
401
فصل: الرحمة المضافة إلى الله
واعلم أن الرحمة والبركة المضافتين إلى الله تعالى نوعان:
أحدهما: مضاف إليه إضافة مفعول إلى فاعله، والثاني: مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها، فمن الأول قوله في الحديث الصحيح: ، فذكر الحديث وفيه: فهذه رحمة مخلوقة مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق تعالى وسماها رحمة لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة وخص بها أهل الرحمة وإنما يدخلها الرحماء.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ، ومنه قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} [هود: 9]، ومنه تسميته تعالى للمطر رحمة بقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48]،
وعلى هذا فلا يمتنع الدعاء المشهور بين الناس قديماً وحديثاً وهو قول الداعي: اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك، وذكره البخاري في كتاب (الأدب المفرد) له عن بعض السلف وحكى فيه الكراهة. قال: إن مستقر رحمته ذاته وهذا بناء على أن الرحمة صفة، وليس مراد الداعي ذلك، بل مراده الرحمة المخلوقة التي هي الجنة، ولكن الذين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جداً وهو أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة نفسها لم يحسن إضافة المستقر إليها، ولهذا لا يحسن أن يقال اجمعنا في مستقر جنتك، فإن الجنة نفسها هي دار القرار وهي المستقر نفسه كما قال: {حسنت مستقراً ومقاماً}، فكيف يضاف المستقر إليها؟ والمستقر هو المكان الذي يستقر فيه الشيء، ولا يصح أن يطلب الداعي الجمع في المكان الذي تستقر فيه الجنة ... فتأمله.
ولهذا قال: مستقر رحمته ذاته، والصواب أن هذا لا يمتنع وحتى لو قال صريحاً: اجمعنا في مستقر جنتك لم يمتنع وذلك أن المستقر أعم من أن يكون رحمة، أو عذاباً، فإن أضيف إلى أحد أنواعه أضيف إلى ما يبينه ويميزه من غيره، كأنه قيل في المستقر الذي هو رحمتك لا في المستقر الآخر.
¥