ونظير هذا أن يقول: اجلس في مستقر المسجد، أي المستقر الذي هو المسجد، والإضافة في مثل ذلك غير ممتنعة ولا مستكرهة وأيضاً فإن الجنة وإن سميت رحمة لم يمتنع أن يسمى ما فيها من أنواع النعيم رحمة، ولا ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة، فالداعي أن يطلب أن يجمعه الله ومن يحب في المكان الذي تستقر فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة وهذا ظاهر جداً، فلا يمتنع الدعاء بوجه ... والله أعلم.
وهذا بخلاف قول الداعي: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، فإن الرحمة هنا صفته تبارك وتعالى وهي متعلق الاستغاثة. فإنه لا يستغاث بمخلوق ولهذا كان هذا الدعاء من أدعية الكرب لما تضمنه من التوحيد والاستغاثة برحمة أرحم الراحمين متوسلاً إليه باسمين عليهما مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما مرجع معانيها جميعها، وهو اسم الحي القيوم، فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، ولا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها، استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفي كمال الحياة، وبهذا الطريق العقلي أثبت متكلموا أهل الإثبات له تعالى صفة السمع والبصر والعلم والإرادة والقدرة والكلام وسائر صفات الكمال.
وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته وعزته. فإنه القائم بنفسه لا يحتاج إلى من يقيمه بوجه من الوجوه وهذا من كمال غناه بنفسه عما سواه وهو المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته وهذا من كمال قدرته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال والغنى التام والقدرة التامة.
فكأن المستغيث بهما مستغيث بكل اسم من أسماء الرب تعالى وبكل صفة من صفاته فما أولى الاستغاثة بهذين الاسمين أن يكونا في مظنة تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإنالة الطلبات، والمقصود إن الرحمة المستغاث بها هي صفة الرب تعالى لا شيء من مخلوقاته، كما أن المستعيذ بعزته في قوله: أعوذ بعزتك، مستعيذ بعزته التي هي صفته لا بعزته التي خلقها يعز بها عباده المؤمنين.
403
وهذا كله يقرر قول أهل السنة إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: يدل على أن كلماته تبارك وتعالى غير مخلوقة، فإنه لا يستعاذ بمخلوق، وأما قوله تعالى حكاية عن ملائكته: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7] فهذه رحمة الصفة التي وسعت كل شيء كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وسعتها عموم تعلقها بكل شيء كما أن سعة علمه تعالى عموم تعلقه بكل معلوم.
فصل: البركة المضافة لله
وأما البركة فكذلك نوعان أيضاً:
أحدهما: بركة هي فعله تبارك وتعالى والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة، وبأداة (على) تارة، وبأداة (في) تارة، والمفعول منها مبارك وهو ما جعل كذلك فكان مباركاً بجعله تعالى.
والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له عز وجل، فهو سبحانه المبارك وعبده ورسوله المبارك كما قال المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]، فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك.
404
وأما صفته تبارك فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه بقوله: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزخرف: 85]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان: 10]، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [الفرقان: 61].
أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه، غير مختصة به لا تطلق على غيره، وجاءت على بناء السعة والمبالغة، ك تعالى وتعاظم ... ونحوهما، فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمتها وسعتها ... وهذا معنى قول من قال من السلف: تبارك وتعاظم.
¥