فجوابه أن التأكيد واقع على الصلاة والسلام وإن اختلفت جهة التأكيد فإنه سبحانه أخبر في أول الآية بصلاته عليه وصلاة ملائكته عليه مؤكداً لهذا الإخبار بحرف (إن) مخبراً عن الملائكة بصيغة الجمع المضاف إليه وهذا يفيد العموم والاستغراق.
فإذا استشعرت النفوس أن شأنه صلى الله عليه وسلم عند الله وعند ملائكته هذا الشأن بادرت إلى الصلاة عليه، وإن لم تؤمر بها، بل يكفي تنبيهها والإشارة إليها بأدنى إشارة، وإذا أمرت بها لم تحتج إلى تأكيد الأمر بل إذا جاء مطلق الآمر بادرت وسارعت إلى موافقة الله وملائكته في الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه، فلم يحتج إلى تأكيد الفعل بالمصدر.
ولما خلا السلام عن هذا المعنى، وجاء في حيز الأمر المجرد دون الخبر، حسن تأكيده بالمصدر ليدل على تحقيق المعنى وتثبيته، ويقوم تأكيد الفعل مقام تكريره كما حصل التكرير في الصلاة خبراً أو طلباً، فكذلك حصل التكرير في السلامة فعلاً ومصدراً فتأمله فإنه بديع جداً .. والله أعلم.
وقد ذكرنا بعض ما في هذه الآية من الأسرار والحكم العجيبة في كتاب (تعظيم شأن الصلاة والسلام على خير الأنام) وأتينا فيه من الفوائد بما يساوي أدناها رحلة مما لا يوجد في غيره ولله الحمد فلنقتصر على هذه النكتة الواحدة.
فصل: تقديم السلام على النبي في الصلاة قبل الصلاة عليه
وأما السؤال الخامس والعشرون: وهو ما الحكمة في تقديم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قبل الصلاة عليه؟ وهلا وقعت البداءة بما بدأ الله به في الآية؟
فهذا سؤال أيضاً له شأن لا ينبغي الإضراب عنه صفحاً وتمشية، والنبي صلى الله عليه وسلم كان شديد التحري لتقديم ما قدمه الله والبداءة بما بدأ به؟
فلهذا بدا بالصفا في السعي. وقال: .
408
وبدأ بالوجه، ثم اليدين، ثم الرأس في الوضوء، ولم يخل بذلك مرة واحدة، بل كان هذا وضوءه إلى أن فارق الدنيا، لم يقدم منه مؤخراً ولم يخل منه مقدماً قط، ولا يقدر أحد أن ينقل عنه خلاف ذلك لا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف ومع هذا فوقع في الصلاة والسلام عليه تقديم السلام وتأخير الصلاة، وذلك لسر من أسرار الصلاة نشير إليه بحسب الحال إشارة، وهو أن الصلاة قد اشتملت على عبودية جميع الجوارح والأعضاء مع عبودية القلب، فلكل عضو منها نصيب من العبودية فجميع أعضاء المصلي وجوارحه متحركة في الصلاة عبودية لله وذلاً له وخضوعاً، فلما أكمل المصلي هذه العبودية وانتهت حركاته ختمت بالجلوس بين يدي الرب تعالى جلوس تذلل وانكسار وخضوع لعظمته عز وجل، كما يجلس العبد الذليل بين يدي سيده، وكان جلوس الصلاة أخشع ما يكون من الجلوس وأعظمه خضوعاً وتذللاً فأذن للعبد في هذه الحال بالثناء على الله تبارك وتعالى بأبلغ أنواع الثناء وهو: التحيات لله والصلوات والطيبات.
وعادتهم إذا دخلوا على ملوكهم أن يحيوهم بما يليق بهم، وتلك التحية تعظيم لهم وثناء عليهم والله أحق بالتعظيم والثناء من كل أحد من خلقه. فجمع العبد في قوله: التحيات والصلوات والطيبات أنواع الثناء على الله، وأخبر أن ذلك له وصفاً وملكاً، وكذلك الصلوات كلها لله فهو الذي يصلي له وحده لا لغيره، وكذلك الطيبات كلها من الكلمات والأفعال كلها له فكلماته طيبات وأفعاله كذلك وهو طيب لا يصعد إليه إلا طيب والكلم الطيب إليه يصعد. فكانت الطيبات كلها له ومنه وإليه له ملكاً ووصفاً، ومنه مجيئها وابتداؤها. وإليه مصعدها ومنتهاها والصلاة مشتملة على عمل صالح وكلم طيب، والكلم الطيب إليه يصعد، والعمل الصالح يرفعه. فناسب ذكر هذا عند انتهاء الصلاة وقت رفعها إلى الله تعالى.
409
*سر السلام على النبي:
فلما أتى بهذا الثناء على الرب تعالى التفت إلى شأن الرسول الذي حصل هذا الخير على يديه. فسلم عليه أتم سلام معرف باللام التي للاستغراق مقروناً بالرحمة والبركة. هذا هو أصح شيء في السلام عليه فلا تبخل عليه بالألف واللام في هذا المقام.
ثم انتقل إلى السلام على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين وبدأ بنفسه، لأنها أهم، والإنسان يبدأ بنفسه، ثم بمن يعول، ثم ختم هذا المقام يعقد الإسلام وهو التشهد بشهادة الحق التي هي أول الأمر وآخره. وعندها كل الثناء والتشهد، ثم انتقل إلى نوع آخر وهو الدعاء والطلب.
¥