تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فالتشهد يجمع نوعي الدعاء. دعاء الثناء والخير، ودعاء الطلب والمسألة والأول أشرف النوعين، لأنه حق الرب ووصفه، والثاني حظ العبد ومصلحته وفي الأثر .

لكن لما كانت الصلاة أتم العبادات عبودية وأكملها شرع فيها النوعين. وقدم الأول منهما لفضله، ثم انتقل إلى النوع الثاني وهو دعاء الطلب والمسألة .. فبدأ بأهمه وأجله وأنفعه له وهو طلب الصلاة من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو من أجل أدعية العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته، كما ذكرنا في كتاب: تعظيم شأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه أيضاً أن الداعي جعله مقدمة بين يدي حاجته وطلبه لنفسه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في قوله: ، وكذلك في حديث فضالة بن عبيد إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع).

فتأمل كيف جاء التشهد من أوله إلى آخره مطابقاً لهذا منتظماً له أحسن النظام، فحديث فضالة هذا هو الذي كشف لنا المعنى وأوضحه وبينه فصلوات الله وسلامه على من أكمل به لنا دينه، وأتم برسالته علينا نعمته، وجعله رحمة للعالمين وحسرة على الكافرين.

410

فصل: السلام بصيغة الخطاب والصلاة بصيغة الغيبة

وأما السؤال السادس والعشرون: وهو ما الحكمة في كون السلام وقع بصيغة الخطاب والصلاة بصيغة الغيبة؟

فجوابه يظهر مما تقدم، فإن الصلاة عليه طلب وسؤال من الله أن يصلي عليه فلا يمكن فيها إلا لفظ الغيبة إذ لا يقال: اللهم صل عليك وأما السلام عليه فأتى بلفظ الحاضر المخاطب تنزيلاً له منزلة المواجه لحكمة بديعة جداً وهي أنه صلى الله عليه وسلم لما كان أحب إلى المؤمن من نفسه التي بين جنبيه وأولى به منها وأقرب وكانت حقيقته الذهنية ومثاله العلمي موجوداً في قلبه بحيث لا يغيب عنه إلا شخصه كما قال القائل:

مثالك في عيني وذكرك في فمي=== ومثواك في قلبي فأين تغيب

ومن كان بهذه الحال فهو الحاضر حقاً، وغيره وإن كان حاضراً للعيان فهو غائب عن الجنان. فكان خطابه خطاب المواجهة والحضور بالسلام عليه أولى من سلام الغيبة تزيلاً له منزلة المواجه المعاين لقربه من القلب، وحلوله في جميع أجزائه بحيث لا يبقى في القلب جزء إلا ومحبته وذكره فيه كما قيل:

* لو شق عن قلبي يرى وسطه ذكرك *

والتوحيد في سطر: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ولا تستنكر استيلاء المحبوب على قلب المحب وغلبته عليه، حتى كأنه يراه، ولهذا تجدهم في خطابهم لمحبوبهم إنما يعتمدون خطاب الحضور، والمشاهدة مع غاية البعد العياني لكمال القرب الروحي، فلم يمنعهم بعد الأشباح عن محادثة الأرواح ومخاطبتها ومن كثفت طباعه فهو عن هذا كله بمعزل، وإنه ليبلغ الحب ببعض أهله أن يرى محبوبه في القرب إليه بمنزلة روحه التي لا شيء أدنى إليه منها، كما قيل:

يا مقيماً مدى الزمان بقلبي=== وبعيداً عن ناظري وعياني

أنت روحي إن كنت لست أراها=== فهي أدنى إلي من كل داني

وقال آخر:

يا ثاوياً بين الجوانح والحشا=== مني وإن بعدت علي دياره

411

وإنه ليلطف شأن المحبة حتى يرى أنه أدنى إليه وأقرب من روحه ولي من أبيات تلم بذلك:

وادني إلى الصب من نفسه=== وإن كان عن عينه نائيا

ومن كان مع حبه هكذا=== فأنى يكون له ساليا

ثم يلطف شأنها ويقهر سلطانها، حتى يغيب المحب بمحبوبه عن نفسه، فلا يشعر إلا بمحبوبه ولا يشعر بنفسه، ومن هنا نشأت الشطحات الصوفية التي مصدرها عن قوة الوارد وضعف التمييز، فحكم صاحبها فيها الحال على العلم وجعل الحكم له وعزل علمه من البين، وحكم المحفوظون فيها حاكم العلم على سلطان الحال، وعلموا أن كل حال لا يكون العلم حاكماً عليه، فإنه لا ينبغي أن يغتر به، ولا يسكن إليه إلا كما يساكن المغلوب المقهور لما يرد عليه مما يعجز عن دفعه، وهذه حال الكمل من القوم، الذين جمعوا بين نور العلم، وأحوال المعاملة، فلم تطفئ عواصف أحوالهم نور علمهم، ولم يقصر بهم علمهم عن الترقي إلى ما وراءه من مقامات الإيمان والإحسان، فهؤلاء حكام على الطائفتين.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير