تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فلو توهم العبد المسكين هذه الحال وصورتها له نفسه وأرته إياها على حقيقتها لتقطع والله قلبه ولم يلتذ بطعام ولا شراب ولخرج إلى الصعدات يجأر إلى الله ويستغيث به يستعتبه في زمن الاستعتاب هذا مع أنه إذا آثر شهواته ولذاته الفانية التي هي كخيال طيف أو مزنة صيف نغصت عليه لذاتها أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبين أقدر ما كان عليها وتلك سنة الله في خلقه كما قال تعالى حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون وهذا هو غب إعراضه وإيثار شهوته على مرضاة ربه يعوق القدر عليه أسباب مراده فيخسر الأمرين جميعا فيكون معذبا في الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يقسم له وإن قسم له منه شيء فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم فهم لا ينقطع وحسرة لا تنقضي وحرص لا ينفذ وذل لا ينتهي وطمع لا يقلع هذا في هذه الدار وأما في البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك قد حيل بينه وبين ما يشتهي وفاته ما كان يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه وأحضر جميع غمومه وأحزانه وأما في دار الجزاء فسجن أمثاله من المبعودين المطرودين فواغوثاه ثم واغوثاه بغياث المستغيثين وأرحم الراحمين فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس والبخس في أعماله وأحواله وقارنه سوء الحال وفساده في دينه ومآله فإن الرب إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس وأظلمت أرجاؤها وانكسفت أنوارها وظهرت عليها وحشة الإعراض وصارت مأوى للشياطين وهدفا للشرور ومصبا للبلاء فالمحروم كل المحروم من عرف طريقا إليه ثم أعرض عنها أو وجد بارقة من حبه ثم سلبها لم ينفذ إلى ربه منها خصوصا اذا مال بتلك الإرادة إلى شيء من اللذات وانصرف بجملته إلى تحصيل الأغراض والشهوات عاكفا على ذلك في ليله ونهاره وغدوه ورواحه هابطا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى قد مضت عليه برهة من أوقاته وكان همه الله وبغيته قربه ورضاه وإيثاره على كل ما سواه على ذلك يصبح ويمسي ويظل ويضحي وكان الله في تلك الحال وليه لأنه ولي من تولاه وحبيب من أحبه ووالاه فأصبح في سجن الهوى ثاويا وفي أسر العدو مقيما وفي بئر المعصية ساقطا وفي أودية الحيرة والتفرقة هائما معرضا عن المطالب العالية إلى الأغراض الخسيسة الفانية كان قلبه يحوم حول العرش فأصبح محبوسا في أسفل الحش فأصبح كالبازي المنتف ريشه يرى حسرات كلما طار طائر وقد كان دهرا في الرياض منعما على كل ما يهوى من الصيد قادر إلى أن أصابته من الدهر نكبة إذا هو مقصوص الجناحين حاسر فيا من ذاق شيئا من معرفة ربه ومحبته ثم أعرض عنها واستبدل بغيرها منها يا عجبا له بأي شيء تعوض وكيف قر قراره فما طلب الرجوع إلى أحنيته وما تعرض وكيف اتخذ سوى أحنيته سكنا وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله وطنا أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار ووافقه على مساكنة الأغيار فيا معرضا عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم ويا بائعا سعادته العظمى بالعذاب الأليم ويا مسخطا من حياته وراحته وفوزه في رضاه وطالبا رضى من سعادته في إرضاء سواه إنما هي لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها فرح ساعة لا شهر وغم سنة بل دهر طعام لذيذ مسموم أوله لذة وآخره هلاك فالعامل عليها والساعي في تحصيلها كدودة القز يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة فطوبى لمن أقبل على الله بكليته وعكف عليه بإرادته ومحبته فإن الله يقبل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته وإن الله سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاته وتنورت ظلماته وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنهم تبع لمولاهم فإذا أحب عبدا أحبوه وإذا والى واليا والوه إذا أحب الله العبد نادى يا جبرائيل إني أحب فلانا فأحبه فينادي جبرائيل في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض فيوضع له القبول بينهم ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته ويقبل عليه بأنواع كرامته ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

طريق الهجرتين لابن القيم ص277– 283.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير