وبالجملة فإن الأدلة على بطلان القول بتغيير الأحكام بتغير الزمان كثيرة جداً، وفيما قدمت من الأدلة كفاية إن شاء الله.
قال الشاطبي - رحمه الله - في بيان ثبات الأحكام الشرعية وعدم تغييرها:
«فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال، بل ما أثبت سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجب أبداً أو مندوباً فمندوب، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك» [18].
إن القول بثبات الحكم الشرعي وعدم إمكانية تغييره من قبل أحد كائناً من كان إضافة إلى أنه الحكم الذي دلت عليه الأدلة كما تقدم؛ يمثل ضمانة من أهم ضمانات استقرار أحوال الأمة، واستتباب الأمن فيها، ومنع الاستبداد، ولقد أدرك أصحاب القوانين الوضعية أهمية الثبات وأثره في أمن المجتمع واستقراره فقالوا بثبات الدساتير، ولكنهم مع ذلك لم يستطيعوا لأنها من صنع البشر.
وإذ تقدم هذا فإنه من غير المقبول أن نجد من بين المعاصرين من يقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين: أحدهما ثابت، والآخر متغير، ويعرف المتغير بأنه «موارد الاجتهاد وكل ما لم يقم عليه دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح» [19]، فهذا قول غير صحيح لأنه مخالف للدليل، ولم ينقله قائله عن أحد من أهل العلم المعروفين السابقين على امتداد أجيال الأمة التي بلغت أربعة عشر قرناً وربعاً من الزمان وعلى اتساع مذاهبها الفقهية وتنوعها [20].
* مفاسد القول بتغيير الحكم الشرعي بتغير الزمان:
ويترتب على القول بجواز تغيير الحكم الشرعي بتغير الزمان مفاسد كثيرة من أبرزها:
1 - اتخاذ الأولياء من دون الله، وهم المشرعون الذين يشرعون الحكم الجديد.
2 - القول بقصور الشريعة وعدم صلاحية أحكامها لعموم الزمان والمكان.
3 - تغيير وتبديل الدين بمرور الزمن.
4 - عدم استقرار أحوال الأمة، وزوال الأمن، وشيوع الظلم والاستبداد.
* الشبهة في القول بتغيير الحكم الشرعي بتغير الزمان:
القائلون بتغيير الأحكام الشرعية بتغير الزمان لا يتعلقون في ذلك بنص سواء كان من القرآن أو من السنة، فليس عندهم أدلة على ذلك، فكل ما عندهم في ذلك كلمات لبعض أهل العلم من مثل «تغير الفتوى بتغير الزمان» ونحوها، وهم طوائف: طائفة اشتبه عليها ذلك ولم تدرس الأمر دراسة واعية وظنت هذا أمراً مشروعاً. وطائفة مناوئة للدين وجدت في هذه الشبهة بغيتها في نفث سمومها والسعي في إطفاء نور الله الذي لا يطفأ، فأخذت تنشر هذا وتضخمه وتؤكد عليه، وأصبح مثل هذا الكلام أداة كبيرة في أيدي الدعاة إلى تحريف الدين باسم تجديد الخطاب الديني. وطائفة مهزومة أمام الفكر الغربي المعاصر، وجدت في ذلك القول مخرجاً ووسيلة للتوفيق بين ذلك الفكر وبين أحكام الشريعة.
ونحن بعون الله نبيّن الصواب في ذلك من خلال الحديث عن ضوابط تغير الفتوى.
* ثانياً: ضوابط تغير الفتوى:
1 - اختلاف العوائد والأعراف:
من الأمور التي تتغير بسببها الفتوى تغير العوائد والأعراف التي تُبنى عليها الفتوى، سئل الإمام القرافي - رحمه الله - عن الأحكام المدونة في الكتب المرتبة على العوائد والأعراف التي كانت موجودة زمن جزم العلماء بهذه الأحكام، هل إذا تغيرت العوائد وصارت لا تدل على ما كانت تدل عليه أولاً، هل يُفتي بما تدل عليه العوائد والأعراف الجديدة، أو يفتي بما هو مدون في الكتب؟ فأجاب - رحمه الله - بقوله: «إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد، خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة»، ثم شرع يفصل فقال:
¥