هناك من الأحكام الشرعية ما يكون تنفيذها عن طريق آلة أو وسيلة، والشريعة لم تحدد في كثير من الأمور الآلات والوسائل التي يتحقق بها الحكم الشرعي، بل تركتها ليختار المسلمون في كل زمان ومكان ما هو أنفع لهم وأصلح وأفضل في تنفيذ الحكم الشرعي؛ إذ ربما لو ألزم المسلمون بآلة أو وسيلة معينة لتعسر عليهم ذلك، ووجدوا في ذلك من المشقة والحرج الشيء الكثير لا سيما أن الوسائل والآلات تتعدد وتتباين، وقد يكون بعضها ميسراً وبعضها غير ذلك، وقد يختلف العسر واليسر بالنسبة للآلة أو الوسيلة نفسها باختلاف الزمان والمكان، والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، فله الحمد والمنة.
مثال ذلك: أمر الله تعالى المسلمين بالجهاد في سبيله وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60)، وقد كانت القوة المستطاعة في ذلك الزمان هي السيف والرمح والترس ونحو ذلك، فإن المفتي والعالم في ذلك الزمان: يقول يجب على المسلمين إعداد السيوف والرماح والحراب وما أشبه ذلك، ثم بعد الزمن المتطاول الذي أوصل إلى عصرنا يقول المفتي والعالم الآن يجب على المسلمين إعداد المدفع والدبابة والصاروخ والطائرة، ولا يجب إعداد السيف ولا الرمح ولا الحربة، فقد وجب اليوم ما لم يكن قبلُ واجباً، وسقط وجوب ما كان قبلُ واجباً، وهذا قد ينظر إليه على أنه تغير في الحكم الشرعي، والحقيقة أن الحكم لم يتغير؛ لأن الحكم الشرعي هو وجوب إعداد القوة المستطاعة، وكانت القوة المستطاعة في الزمن الأول: السيف والرمح ونحوه، وصارت اليوم المدفع والصاروخ، ونحوه، وقد تكون بعد فترة من الزمن شيئاً آخر فالحكم الشرعي لم يتغير، وإنما الذي تغير هو الآلة أو الوسيلة التي يتحقق بها الحكم الشرعي في الواقع، وهذه الآلات والوسائل والأساليب المستجدة، لا يكفي فيها أن تكون محققة للحكم الشرعي بل هي محكومة بشروط هي:
1 - ألا تعارض قاعدة كلية من قواعد الشريعة.
2 - ألا تخالف دليلاً من أدلة الشرع التفصيلية.
3 - ألا يترتب عليها مفسدة تربو على المصلحة المتحصلة منها [27].
من كل ما تقدم يتبين أن مسألة تغير الفتوى ليست مسألة متعلقة بالزمان المجرد، أو المكان المجرد، وكأن الزمان والمكان هما سبب تغيير الفتوى، ولكن لما كان الزمان والمكان أوعية للأحداث والأفعال والتغيرات والعوائد والأعراف نُسب التغير للزمان والمكان، وهذا يطلق عليه في عرف البلاغيين مجاز مرسل علاقته الظرفية، وقد تبين بما تقدم أيضاً أن الموضوع منضبط وله قواعد تحكمه، وليس هو مجرد استجابة أو إذعاناً لضغط الواقع، وهذه الأمثلة المتقدمة يمكن أن تندرج تحت قسمين كبيرين:
الأول: فتاوى مؤسسة من أول أمرها على العرف أو المصلحة المرسلة، ثم يتغير العرف أو المصلحة بتغير الزمان والمكان، فتتغير الفتوى تبعاً لذلك.
الثاني: فتاوى مؤسسة على نصوص، لكن هذه النصوص كانت معللة بعلة أو راعت عرفاً قائماً، أو كانت مرتبة على صفة أو مقيدة بحالة ونحو ذلك، فإذا زالت العلة أو تغير العرف أو الصفة أو الحالة؛ فإن الفتوى تتغير أيضاً لذلك [28].
ويمكننا أن نلاحظ مما تقدم عدة أشياء:
1 - أن عملية تغير الفتوى بتغير ما هي مرتبة عليه؛ إنما هي عملية تهدف إلى إبقاء الأمور تحت حكم الشريعة، وإن تغيرت صورتها الظاهرة، وهي ليست خروجاً على الشريعة واستحدثاً لأحكام جديدة.
2 - أن التغير في الفتوى هو تغير خاص من حيث الزمان والمكان والشخص، حيث تتغير فقط بالنسبة للزمان أو المكان أو الشخص الذي تغيرت في حقه مسوّغات الفتوى، وهذا معناه أن الأمور تكون باقية على ما هي عليه في بقية الأماكن والأزمان والأشخاص.
3 - أن أهل العلم عندما قالوا بمراعاة الأحوال والعوائد ونحوها؛ إنما قالوا ذلك حتى لا يقعوا في الظلم: إما ظلم العباد بإلزامهم بما لم يلزمهم به الشرع، وإما ظلم أنفسهم بالخطأ على الدين.
4 - أن الذي يقول في حق هذه العوائد والأعراف إنها تغيرت وبالتالي تتغير الفتوى المرتبة عليها؛ إنما هم أهل العلم والمعرفة بالشرع، وليس أهل الهوى والجهل.
¥