الأمر ليس سهلا، بل هو في غاية الصعوبة، وأخوكم الضعيف ليس استثناء في هذا الأمر.
ولكن الموفق من وفقه الله، والمهدي من هداه الله، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وجماع الأمر - فيما أحسب والله تعالى أعلم - أن ننظر إلى الاختلافات بين أهل العلم، فأنا أزعم أن أكثر هذه الاختلافات هي اختلافات في الفهم، وليست اختلافات في الجهل ببعض النصوص.
ومن الأدلة على ذلك أن الخلاف المبني على الجهل بنص معين ينبغي أن يزول عند استحضار هذا النص، ومع ذلك لا نرى هذا موجودا في معظم الخلافات.
وهذا ليس قصرا على الخلافات الفقهية، بل هو عام في الخلافات الاعتقادية، والخلافات الأصولية وغير ذلك أيضا.
ولكي تعرف عظم الخطر في هذا الباب انظر لنفسك ومعلوماتك وما اطلعت عليه من الكتب وما حصلته من معارف.
هل الكتب التي قرأتها أكثرها للمتقدمين أو للمتأخرين؟
هل خبرتك بعبارات المعاصرين وفهم المراد من كلامهم مثل خبرتك بكلام الصحابة والتابعين وفهم المراد منها؟ فضلا عن كلام العرب الأقحاح والشعراء الجاهليين؟!
أنا أحسب - والله أعلم - أن الواحد منا إذا قرأ للشيخ الألباني مثلا فلن يصعب عليه فهم شيء من مراده، في حين إنه إذا قرأ للحافظ ابن حجر فقد يخفى عليه شيء مما يريده الحافظ، أما إذا قرأ مثلا للخطيب البغدادي فربما يغيب عن فهمه ما هو أكثر من كلام الحافظ ابن حجر، ثم إذا قرأ مثلا كلام الصحابة والتابعين فالمتوقع أن فهمه لها سيكون أقل من فهمه لكلام الخطيب.
ثم إذا قرأ كلاما لبعض الجاهليين فسيكون فهمه أقل من كل ما سبق.
والسبب في ذلك - والله أعلم- أنه كلما بعد العصر اختلفت القرائن والألفاظ والاستعمالات، وتغيرت الأمور الواضحات، وصار بعض المشهور غريبا وبعض الغريب مشهورا.
ولذلك تجد مثلا في القاموس المحيط عن بعض الألفاظ (معروف) مع أنه من غريب اللغة الذي لا يكاد يعرفه أحد من المعاصرين، مع أن صاحب القاموس من أهل القرن الثامن ثم التاسع الهجري!
فما بالك بكلام علماء القرن الثاني؟! لا شك أنه أبعد
فما بالك بكلام أهل الجاهلية، لا شك أنه أبعد وأبعد
وليس من سبيل - من وجهة نظري والله أعلم - لحل هذا الإشكال إلا بأن يحاول المرء أن يغير ثقافته، وذلك بأن يجعل اطلاعه على كلام أهل عصر معين أكثر من اطلاعه على غيره من العصور، فهذا هو السبيل الوحيد لاكتساب هذه السليقة، أو هذه الملكة التي تجعله يفهم الفهم الصحيح لأول وهلة أو بادي الرأي.
ولذلك كان أهل الحديث هم أقرب الناس لفهم المراد من الأحاديث.
وكان النحويون أقرب الناس لفهم مراد سيبويه.
وكان اللغويون أقرب الناس لفهم كلام العرب.
ولذلك كثيرا ما يقول أهل العلم: إن العبرة في كل فن إنما هي بكلام أهله المتقنين له، بخلاف غيرهم، فلا يعتد بكلام غير النحويين في النحو، ولا بكلام غير الفقهاء في الفقه، كما أنه لا يعتد بكلام غير الأطباء في الطب.
ولا شك أن الطبيب الذي ليس خبيرا بعلوم العربية أكثر فهما لكلام الطبيب مثله من فهم عالم العربية، حتى لو كان الكلام مكتوبا باللغة العربية الفصيحة.
وسبب هذه الإشكالات جميعها أن الكلام المنطوق أو المكتوب لا يمكن أن يعبر عن مراد المتكلم تعبيرا مطابقا لما في النفس تماما بحيث لا يزيد ولا ينقص، وتأمل ذلك من نفسك تجده صحيحا إن شاء الله.
ولذلك يُغفل كثير منا حال الكلام كثيرا من الأمور التي يراها هو واضحة لا تشكل على أحد، ولو لم يفعل ذلك لاحتاج في كل جملة أو عبارة من عباراته أن يملأها بالاحترازات والتقييدات التي تخل بنظام الكلام وتضيع الوقت في غير فائدة.
ولولا أن القرائن المعتادة تقوم مقام التصريح في هذه الأمور لما صلح حال الناس ولما استطاع بعضهم أن يفهم مراد بعض، كما لو قلت لولدك مثلا: (ماء)، فإنه يفهم بحسب القرائن أنك تريد كوبا من الماء لكي تشربه، أما إذا كنت تسير معه في الطريق مثلا وقلت: (ماء) وأمسكت به بسرعة وجذبته للخلف، فإنه يفهم بحسب القرائن أنك تريد منه الاحتراز من وقوعه في الماء أو وقوع الماء عليه.
وهذه القرائن والأحوال إنما فهمت بحسب العادة والعرف، وهذه الأمور تختلف من عصر لعصر، فقد يكون مثلا في بلد من البلدان أن قول بعضهم لبعض: (ماء) معناه مشروب معين يصنع بطريقة معينة.
ولذلك تجد أكثر أخطاء المحققين لكتب أهل العلم سببها أنهم يجرون أعرافنا المعاصرة على كلام هؤلاء، فيجعلون البعيد قريبا والمحال واجبا واللازم محالا!!
وأنصح إخواني في الله أن يجربوا هذا الأمر، وذلك بأن تقصر نفسك على قراءة كتب أحد أهل العلم مدة معينة من الزمن، حتى تحيط بجملة وافرة منها، ثم انظر بعد ذلك هل يكون استيعابك للكلام أكبر وفهمك لما بين السطور أكثر حتى تكاد في بعض الأحيان تعرف ماذا سيقول في السطر القادم قبل أن تقرأه!!
وقد سمعنا عن كثير من العلماء والشعراء والأدباء كان أحدهم يسمع شطر البيت فيذكر الشطر الثاني من غير أن يكون قد سبق له سماعه!! فإذا سئل: من أين عرفته؟ قال: هذا ما ينبغي أن يقال، أو نحو ذلك.
وكثيرا ما كنت أحضر بعض المناقشات فأجد كلا من الطرفين يدعي أن فهمه هو المتبادر!! وأن الصواب حمل الكلام على الفهم المتبادر!!
فنقول: هذا صحيح، ولكن المتبادر عند من؟! ليس عندي ولا عندك، وإنما عند أهل اللسان، عند السلف الذين عاينوا الأحوال وتشربوا القرائن التي هي الأساس في هذا الذي تدعي أنه (المتبادر).
فإذا كنت قد نظرت وقرأت وأكثرت من الاطلاع على كلام هؤلاء حتى صارت لك فيه ملكة، فحينئذ يكون المتبادر عندك قريبا من المتبادر عندهم، أما بخلاف ذلك فلا وألف لا!!
ولذلك نجد أبعد الناس عن صحة الفهم - فهم كلام السلف - من يقصر علمه ويقضي عمره في النظر في كتب بعض المتأخرين حتى يكون كلام السلف عنده أشبه باللغة الأعجمية!
أسأل الله سبحانه أن يمدنا بمدد من عنده، وأن يرزقنا حسن الفهم، وصحة العلم، وصواب العمل.
إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
¥