ثم قوله: (في أية ساعة من النهار) عام يقيد بفعله، أي أية ساعة من النهار من بعد الزوال، وهكذا تتفق النصوص، فلا تتعارض.
وبهذا فلا ترخيص لأحد فيه، فيكون أقوى في الوجوب.
فيثبت بذلك: أن الرمي بعد الزوال واجب، حيث تحققت فيه شروط الوجوب:
1 - أن يرد الأمر به في نص عام، وقد يرد فيه نص خاص. [والأمر جاء به في نص عام].
2 - أن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه. [وقد فعله بنفسه]
3 - أن يرد عليه الترخيص لفئة، فإن لم يرخص فهو أقوى في الوجوب، لكنه يأتي مع الأمر العام. [لم يرد عليه تخصيص في الأصح، وإن قيل بوروده فلا يخرجه عن الوجوب].
المحصل: أنه لا صارف يصرف هذا الحكم عن الوجوب إلى الاستحباب.
* * *
بعض الآثار في المسألة:
وقد استدلوا بآثار، منها ما جاء في المصنف لابن أبي شيبة [3/ 304. رقم 14575] في الحج، في الجمار كيف ترمى؟.
عن ابن أبي مليكة قال: "رمقت ابن عباس رماها عند الظهيرة، قبل أن تزول".
ليس بمثل هذا الأثر يبطل الوجوب؛ إذ هو فعل صحابي، وذلك فعل النبي وأمره.
نعم الصحابي هو أدرى الناس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يمتنع عليه الخطأ، والنسيان، وهذا أمر وارد في هذه المسألة. وقد يكون هذا مذهبه، ليس مذهب باقي الصحابة. كما أنه لا يمتنع خطأ الراوي في تقدير الوقت.
فهذه احتمالات تبطل الاستدلال بهذا الفعل، وهو معارض بآثار عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم:
- قال عمر بن الخطاب: (لا ترمي الجمرة حتى يميل النهار). [البيهقي]
- ويقول ابن عمر: (كنا نتحين إذا زالت الشمس رمينا)؛ والتحيّن ترقب وتربص، كما يتربصون وقت صلاة العيد.
- وفي أخبار مكة للفاكهي [4/ 298 - 299]: عن عمرو بن دينار، قال: (ذهبت أرمي الجمار، فسألت: هل رمى عبد الله بن عمر؟. فقالوا: لا، ولكن رمى أمير المؤمنين. يعنون ابن الزبير. قال عمرو: فانتظرت ابن عمر فلما زالت الشمس خرج، فأتى الجمرة الأولى، فرماها.
- وفيه عن أبي بالزبير: (أنه رأى عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير يرميان الجمار حتى تزيغ الشمس)، أي إذا زالت.
- وعن نافع أن ابن عمر كان يقول: (لاترمي الجمار في الأيام الثلاثة حتى تزول الشمس). [الموطأ]
فهذا قول ابن عمر وفعله، فالاستدلال بعد هذا بقوله في البخاري: (إذا رمى إمامك، فارم). لمن سأله عن وقت الرمي، بالقول: "لو كان المتعين عنده الرمي بعد الزوال لبينه للسائل".
لا وجه له؛ إذ يحتمل أن يكون الإمام يرمي بعد الزوال، كابن الزبير. أو أنه أراد له موافقة إمامه في أية حال، درءا للفتنة، فيجوز حينئذ الترخص.
فأين هذا من أفعال، وأقوال صريحة عنه في النهي عن الرمي قبل الزوال؟.
* * *
والقول بالوجوب هو قول: ابن عمر، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد وروي عن الحسن وعطاء. [المغني 5/ 328]، كذلك أبو حنيفة. وفي المصنف لابن أبي شيبة [3/ 305. رقم 14579]: قال ابن جريج: "وسمعت عطاء يقول: لا ترمي حتى تزول الشمس. فعاودته في ذلك، فقال ذلك".
والقول بجواز الرمي هو قول: إسحاق، ورواية عن أحمد، وعكرمة، وطاوس. [المغني 5/ 328]
* * *
والخلاصة: أن الرمي بعد الزوال واجب. والأمر النبوي يقول: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
فمن اضطر إلى الرمي قبل هذا الوقت فلا جناح عليه، تشبيها له بالضعفة يدفعون ليلا، وبالسقاة والرعاة لا يبيتون في منى لياليها، ويجمعون رمي يومين في يوم، وبالحائض تنفر من دون طواف الوداع.
أما تجويز الرمي قبل الزوال مطلقا للجميع، من دون عذر كتلك الأعذار، فليس له ما يسنده أو يعضده.
* * *
المسألة الثانية: من الذي يحتمل وزر اليوم الثاني عشر؟.
التزاحم عند الجمرات سبب الوفيات.
هذا صحيح، لا يختلف فيه. إنما الكلام في المتسبب في هذا التزاحم، المؤدي إلى الوفيات؟.
- هل هو الفتوى بوجوب الرمي بعد الزوال؟.
- أم التنظيم والإدارة؟.
- أم عجلة الناس، أو حملهم على الاستعجال؟.
لو درسنا الاحتمال الأول، لوجدنا من خلال التتبع: أن الوفيات ليست حصرا على اليوم الثاني عشر، ففي يوم النحر، في عدة أعوام سابقة، آخرها قبل عامين، مات جمع كبير من الحجاج، لا يقلون عددا عن الذين ماتوا في الثاني عشر .. فما كان السبب؟.
فالوقت واسع جدا، يبدأ منذ ليلة النحر، حتى فجر الحادي عشر .. !!.
هم ماتوا لأجل الزحام، وبالقطع: لم تكن الفتوى سبب هذا الزحام.
إذن هنالك سبب آخر للزحام غير الفتوى. ما هو؟.
حتى نقترب من المقصود، لو فرضنا أن كل الذين يفتون بالوجوب - على قلتهم، وقلة المتبعين لفتاواهم- غيّروا فتواهم إلى الجواز، فهل ستحل المشكلة، فيسلم الناس من الموت؟.
في كل حال، لا بد من تحديد وقت آخر لبداية الرمي، فإذا لم يكن بعد الزوال، فسيكون قبل الزوال، وهذا القبل: إما أن يبدأ من بعد الفجر، أو قبل الفجر، أو منتصف الليل، أو الضحى في ساعة كذا.!!.
ففي كل هذه لا بد من وقت محدد؛ لأن الناس حينئذ سيسألون عن وقت البداية، ولا بد من الجواب.
ثم يحرص الناس على هذا الوقت الجديد، لأجل التعجل، إما لرغبة في نفوسهم، أو يضطرهم غيرهم إلى ذلك؟!! .. ثم يتزاحمون، وتعود المشكلة من جديد، فيموت من يموت، ويسلم من يسلم؟!.
وحينئذ يعلم الناس: أن الفتوى كانت بريئة من هذه الوفيات.!!.
فليبحثوا وليعلقوا المشكلة بالأسباب الحقيقية، وهي ظاهرة غير خافية، فكل شيء في الحج ظاهر، وعلاجه كذلك لا يخفى، وليس بالعسير.
والعتب بعد هذا على من رضي بتحميل الفتوى هذه المشكلة .. ؟!!.
أفكلما كلما حُمّلت الفتوى مشكلة احتملتها؟!!.
* * *
¥