هذا لو سلمنا بصحة دلالة الأثر على دعواهم؛ فإنه من الممكن حمل هذه الساعة من النهار، على ما بعد الزوال، ليتفق مع فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه، وحرصهم على تحيّن الزوال.
والقاعدة: أنه لا يلجأ إلى الترجيح، مع إمكانية الجمع. والجمع هنا غير محال.
فهذا الدليل عليهم لا لهم.
وفي خصوص رمي الرعاة ورد الأثر التالي في مصنف ابن أبي شيبة [3/ 260. رقم 14110] في الحج، في الرعاة كيف يرمون؟.
عن نافع عن ابن عمر: (أنه كان يجعل رمي الجمار نوائب بين رعاة الإبل، يأمر الذي عنده، فيرمون إذا زالت الشمس، ثم يذهبون إلى الإبل، ويأتي الذين في الإبل فيرمون، ثم يمكثون، حتى يرمونها من الغد إذا زالت الشمس).
فهذا ترتيب الصحابي لرمي الرعاة، إنما كان بعد الزوال. فأين هم عن الرخصة لو ثبتت، هل نسوها، وهم أحرص الناس على الترخص؟!.
وأين ابن عمر عنها، هل خفيت عليه؟!.
هذا مع أن الرخصة لا تنافي الوجوب، لكن عدم الترخيص أقوى، وكلاهما واجب، لكن الوجوب على مراتب، وهذا معلوم.
وهنا دليل آخر في المعنى نفسه:
فعن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه قال: (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاة الإبل في البيتوتة: أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر. يرمونه في أحدهما). قال مالك: "ظننت أنه قال في أول يوم منهما، ثم يرمون يوم النفر". [رواه مالك، والترمذي، وابن ماجة].
هذا نص في جواز تقديم رمي اليوم الثاني إلى الأول، لترمى جميعا، رخصة لصاحب العذر؛ إذ قال: (يرمونه في أحدهما). أي أحد اليومين، فيحتمل التقديم، ويحتمل التأخير.
لكن ههنا ملحظ، هو:
أنه من قول الراوي، فاحتمال خطئه في قوله: (أحدهما) وارد. فربما نسي، أو لم يحفظ، فلم يشأ أن يحدد من تلقاء نفسه يوما بعينه.
ويؤكد هذا الاحتمال: ما جاء في رواية أحمد والبيهقي بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للرعاة: أن يتعاقبوا، فيرموا يوم النحر، ثم يدعوا يوما وليلة، ثم يرموا الغد).
فهذا الرواية تفيد أن الرمي يكون في الثاني عشر لليومين، فإذا ضم إلى هذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تحين وقت الزوال للرمي بعده، فإنه يتأكد حمل رواية: (في أحدهما) على اليوم الثاني.
ومع ذلك: فإن جاز أخذ هذه الرواية على ظاهرها، من غير إيراد عليها، فإنها تفيد: أن للمضطر أن يترخص بالرمي في اليوم الأول عنه وعن الثاني؛ أي بالتقديم، ويكون بذلك قد رمي قبل زوال شمس اليوم الثاني. ويبنى هذا على: أن الأصل في أيام الرمي: أنها كيوم واحد. فيجوز التقديم إذن للعذر.
والمهم في المسألة:
أن هذا الأثر كسابقه، فيه إثبات وجوب الرمي بعد الزوال؛ لأن فيه الترخيص، والترخيص لا يكون إلا مع الوجوب، كما تقرر.
والأثر صححه الألباني في الإرواء [1080].
* * *
إذن كل هذه النصوص وأوجه الاستدلال لا تنهض أن تكون صارفة، إما لضعفها، أو لبطلانها، غاية ما فيها الترخص، وهو دليل الوجوب، ليس الاستحباب.
وبهذا يثبت الشرط الثالث من شروط الوجوب في مناسك الحج، وهو:
- أن يرد عليه الترخيص لفئة. فإن لم يرخص فهو أقوى في الوجوب؛ لكنه يأتي مع الأمر العام.
فالرمي بعد الزوال، إذا أخذنا بالأثر الآنف في رمي الرعاة في أية ساعة من النهار، فيكون ورد عليه ترخيص لفئة، فهو دليل الوجوب، حيث لم يرخص للعموم.
وإن أخذنا بالدلالات السابقة الأقوى، فيقال: لم يرد فيه ترخيص.
حيث لم ينقل عن الصحابة رميهم قبل الزوال، وكان الذين معه مائة ألف، أفلا يوجد فيهم من يترخص، كما ترخصوا في المبيت وجمع الرمي؟.
ثم قوله: (في أية ساعة من النهار) عام يقيد بفعله، أي أية ساعة من النهار من بعد الزوال، وهكذا تتفق النصوص، فلا تتعارض.
وبهذا فلا ترخيص لأحد فيه، فيكون أقوى في الوجوب.
فيثبت بذلك: أن الرمي بعد الزوال واجب، حيث تحققت فيه شروط الوجوب:
1 - أن يرد الأمر به في نص عام، وقد يرد فيه نص خاص. [والأمر جاء به في نص عام].
2 - أن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه. [وقد فعله بنفسه]
3 - أن يرد عليه الترخيص لفئة، فإن لم يرخص فهو أقوى في الوجوب، لكنه يأتي مع الأمر العام. [لم يرد عليه تخصيص في الأصح، وإن قيل بوروده فلا يخرجه عن الوجوب].
المحصل: أنه لا صارف يصرف هذا الحكم عن الوجوب إلى الاستحباب.
* * *
بعض الآثار في المسألة:
¥