ثم يحرص الناس على هذا الوقت الجديد، لأجل التعجل، إما لرغبة في نفوسهم، أو يضطرهم غيرهم إلى ذلك؟!! .. ثم يتزاحمون، وتعود المشكلة من جديد، فيموت من يموت، ويسلم من يسلم؟!.
وحينئذ يعلم الناس: أن الفتوى كانت بريئة من هذه الوفيات.!!.
فليبحثوا وليعلقوا المشكلة بالأسباب الحقيقية، وهي ظاهرة غير خافية، فكل شيء في الحج ظاهر، وعلاجه كذلك لا يخفى، وليس بالعسير.
والعتب بعد هذا على من رضي بتحميل الفتوى هذه المشكلة .. ؟!!.
أفكلما كلما حُمّلت الفتوى مشكلة احتملتها؟!!.
* * *
الرمي بعد غروب شمس الثاني.
من المشهور لدى الجميع: أن من أدركه الغروب يوم الثاني فلم يخرج، أو لم يرم، فعليه المبيت للثالث.
وقد ذكر ابن قدامة أنه قول: عمر، ومالك، والشافعي وغيرهم. واستدلوا بقوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه}؛ أن اليوم اسم للنهار، فمن أدركه الليل فما تعجل في يومين، ونقل ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال: (من أدركه المساء في اليوم الثاني، فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس). [المغني 5/ 332]
ويلاحظ هنا:
أن الإلزام بالمبيت ليس فيه نص، سوى فعل النبي صلى الله عليه. إنما آثار عن الصحابة، وفهم لمعنى اليوم في الآية؛ أنها النهار فحسب.
أما الآثار فعلى فرض ثبوتها، يبقى السؤال عن دلالتها: هل للوجوب، أم الاستحباب؟.
كلاهما محتمل. وكلام ابن عمر في هذا واضح الاحتمال، فصيغة الأمر تحتمل الأمرين.
وبما أنه ليس بكلام الشارع نفسه، الذي يحمل أمره على الوجوب، ما لم يوجد صارف: فلا نستطيع أن نحمله على الوجوب بإطلاق، إلا بشروط، هي:
- الأول: أن يكون دالا على الأمر.
- الثاني: أن يكون له أصل في كلام الشارع يدل عليه بالوجوب، أما بالنص المباشر، أو بالمقاصد.
- الثالث: لا يكفي هذا في الإيجاب، ولو كان قولا للصحابة، حتى يضاف إليه شرط، هو:
o إما أن يكون إجماعا.
o أو قولا لجمهورهم، أو الخلفاء الأربعة.
o أو قولا لبعضهم، أو أحدهم، فيشتهر دون أن يؤثر مخالفا له منهم.
حينئذ فالقول حجة في الوجوب، ويجب العمل به. أما بدون هذا فلا يدل - إن دل - على أكثر من الاستحباب. وهذا مثل إيجاب الدم على ترك الواجب، فإن فيه أثر ابن عباس: (من ترك نسكا، فليهريق دما)، ورد موقوفا ومرفوعا، وهو وإن كان يحتمل الاستحباب، كما يحتمل الوجوب، إلا أن له أصلا يدل عليه، هو: إيجاب الفدية على من ارتكب المحظور. والعلة الظاهرة: ليجبر الخلل الذي أصاب النسك. فإيجاب الفدية في ترك الواجب أولى؛ لأن فعل الواجب مقدم، وهو مقصود لذاته، فهو من ذات النسك. أما ترك المحظور فمقصود لغيره؛ لمنع الترفه.
وإذا طبقنا الميزان على أثر ابن عمر: فإننا نخرج بنتيجة هي: أن دلالته على الوجوب ضعيفة.
فهو وإن كان أمرا، ولم يخالف فيه أحد من الصحابة، على حد ما علمنا: فليس له أصل يدل عليه، سوى ما استدلوا به من الآية، وهو ضعيف وسيأتي. وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو فعله، أو تقريره ما يدل على وجوب المبيت لمن أدركه الغروب.
وحتى لو فرضنا جدلا: ثبوت الوجوب. فإن وجوبه بالقطع أضعف من وجوب الرمي بعد الزوال، الذي ثبت، كما تقدم: بالقول، والفعل النبوي، وبالترخيص، أو بعدم الترخيص، على اختلاف في هذا، بالنظر إلى ثبوت الآثار في الترخيص من عدمه.
فإذا كان ولا بد من الترخص، فيكون الترخص في جهة نهاية الرمي أولى من جهة البداية، فبدلا أن يقال للناس: ارموا قبل الزوال. فالأولى أن يقال لهم: ارموا إلى بعد الغروب حتى الليل، إلى الفجر. فإن أدرككم الفجر، فيلزمكم الرمي من اليوم الثالث.
هذا هو الاختيار الملائم لمكان ومرتبة الوقتين من الرمي.
وإذا ما استدلوا بالآية، فإنه لا يسلم لهم: أن اليوم اسم للنهار دون الليل. بل لهما جميعا. وهذا معروف، وإلا فقل لي: هذا النهار مع ليله جميعا. هل يطلق عليهما اسم سوى اليوم؟!.
وفي الحج خصوصا: فإن الليل يتبع للنهار. عرفنا ذلك من شأن يوم عرفة، فليله يتبع نهاره. ومن المعقول أن يكون هذا حكم ليالي منى؛ لأنها جميعا أيام حج. ويقال: ليلة التروية، ويقصد بها ما يتبع نهار الثامن.
فإذا كان كذلك، فلا دلالة في الآية على الدعوى.
بل يمكن الاستدلال بها على: أن وقت الرمي يمتد إلى فجر اليوم الثالث. لأن ذلك نهاية الليل، الذي هو نهاية اليوم، فما لم ينفر قبله، أو يرم. فيلزمه الرمي يوم الثالث عشر. وهو قول أبي حنيفة، قال:
"له أن ينفر ما لم يطلع فجر اليوم الثالث؛ لأنه لم يدخل وقت رمي اليوم الآخر، فجاز له النفر، كما قبل الغروب". [المغني 5/ 332]
والمحصل: أن إيجاب البقاء على من لم ينفر قبل الغروب، أو لم يرم: ليس له ما يسنده.
غاية ما في الآثار الاستحباب. فإن حملت على الوجوب، فحين مقارنتها بإيجاب الرمي بعد الزوال، فهذا الثاني أقوى وجوبا، وعليه فتقديم هذا الواجب أولى.
وهذا التيسير من جهة نهاية الوقت، أولى من التيسير من بدايته، لما عرفت من مرتبة كلا الجهتين.
ولو أن الخائضين في وقت الرمي بعد الزوال وقبله، التفتوا قليلا إلى التحقيق في مسألة الرمي بعد الغروب، لكان فيه تيسير موافقا لأصول الشريعة، غير مخالف. هو أحسن من تيسير ربما أفضى إلى تضييع السنة.
وإن من أسباب الزحام يوم الثاني عشر: انحصار وقت الرمي للمتعجل ما بين الزوال والغروب.
فالناس يجتهدون في الرمي أول الوقت، ليدركوا الخروج قبل الغروب.
ولو وسع عليهم من جهة الغروب، حتى يكون إلى الفجر، بحسب التحقيق الآنف، لكان ذلك داعيا لهم إلى التريث، وترك العجلة.
فيرمي بعضهم بعد الزوال، وآخرون بعد العصر، وغيرهم بعد المغرب والعشاء، فيخف الزحام عنهم.
* * *
إذن لدينا لمشكلة الزحام يوم الثاني عشر حلاّن، من الجهة الفقهية، مع استصحاب أن المشكلة ليست فقهية بالمقام الأول:
- الأول: توسيع وقت الرمي من جهة النهاية، إلى فجر اليوم الثالث عشر.
- الثاني: الترخيص لأصحاب الأعذار بالرمي قبل الزوال، أو يوم الأول لليومين معا الأول والثاني.
إن هذا أحسن من الإذن مطلقا بالرمي قبل الزوال، فلا شك أن في هذا تضييع للسنة، وكفى بهذا خطأ.
والله أعلم.
* * *
¥