تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

طابعاً عملياً متحركاً لم يكن متوافراً لمفكري ثانويات دمشق أمثال عفلق والبيطار. وكانت الفواصل في ذهن الارسوزي بين فكر الزعامات التقليدية وفكرة البعث العربي الذي يتخيله ويريده واضحة. فقد عاصر الرجل اليسار الفرنسي وتتلمذ على بعض رموزه وحاول توظيف جوانب من الفكر اليساري الفرنسي في التركيبة البعثية القومية بنجاح أغرى شباب ذلك الجيل ولفت أنظارهم إليه، فقد حول حصيلته الفكرية إلى إيديولوجية مثالية يمكن للمتعلمين الباحثين عن عقيدة للعمل والتنظيم تفصلهم عن مجموعات الشيوعيين والإسلاميين والزعامات التقليدية معاً أن تتبناها فانتشرت مدرسته الفكرية واشتهرت عام (1950) في أوساط الطلاب الذين وجدوا فيه مصدر الإيديولوجيا والزعامة وأساليب العمل القومي المنظم [ iii]. فاكتشفت الزعامات التقليدية الشامية والمدرسون الذين لم يكونوا قبل الارسوزي يواجهون منافسين لهم وزن مهم بهذا المستوى فبدأت عمليات تحجيمه ومحاصرته من هؤلاء جميعاً. فكل هؤلاء قد رأوا في هذا الغريب الطارئ على البيئة الدمشقية السياسية تهديداً.

أما ميشيل عفلق وصلاح البيطار فقد كان لهما أسلوبهما الخاص في تحجيمه بعد احتواءه ثم استهلاكه فكرياً. فقد دعى الرجلان الارسوزي للتعاون مع النواة التي شكلاها أو كانا يهيئان لتشكيلها "البعث العربي" وهي النواة التي حاولا أن يقنعاه بأنها انعكاس لأفكاره، وتعبير عن فلسفة التوافق معه، لكن الأمر لم ينطل على الارسوزي فبعد لقاءات محدودة معهما خرج ليتهم عفلق والبيطار بالتواطؤ مع المخابرات الفرنسية للإجهاز على حركته الناشئة، ورأى في شخصية عفلق وجهوده تحالفاً مع المخابرات الفرنسية لإجهاض حركة "البعث العربي" باسم "البعث العربي" كما كان له مثل ذلك الرأي في الزعامات التقليدية التي خضعت لمساومات المحتل الفرنسي وقبلت التعاون معه لإجهاض ثورات الشعب!! ومحاولاته لتحقيق التحرر الحقيقي، وراح الارسوزي يعقد الحلقات في بيته وفي المقاهي وفي الفصول التي يدرس فيها للتنديد بالزعامات التقليدية وبعفلق والبيطار واتهامهم - جميعاً – بالتواطؤ المكشوف مع قوى الاحتلال الفرنسي لإجهاض ثورات الشعب [ iv]، وقد كان رد فعل عفلق ضد الارسوزي عجيباً حيث تبنى عفلق أفكار الارسوزي في "البعث العربي" وانتحلها على أنها أفكاره، وصار يعبر عنها بلغته وطريقته، ويعتبرها "الإيديولوجيا القومية" التي ابتعث عفلق للتبشير بها والدعوة إليها. وحين نتابع المعارك الفكرية قديماً وحديثاً، ونحاول رصد أسلحة معارك "الكلمة والمعتقد" [ v] لا نرى سلاحاً أشد فتكاً بالأفكار من تبنيها بعد تفريغها من محتواها، و جعلها مجرد شعار لا مضمون له. وإذا بحثت عن المضمون من خلال الشعار أو شرحه قيل لك: إنه شعار ذو حرمة وقدسية لا نسمح لأحد بتحليله أو تفكيكه حتى إذا كان من أولئك الملتزمين به، لأن "تحليل" الشعار يفقده قدسيته، ويزيل عنه حرمته [ vi]. لأن عفلق يدرك أنه لو تم تحليل تلك الشعارات لبرزت الأفكار الكامنة فيها، والمرموز إليها بها، فيفقد عفلق صفة "الإبداع".

وهكذا كان عفلق والبيطار قد استوليا على فكر الارسوزي الذي أمد مجموعتهما بالأيديولوجيا وإمكانات الزعامة، وأجندة العمل القومي المنظم بحيث كان يتوقع أو يفترض أن ينطلق الحزب بين الجماهير ويبدأ مرحلة التفاعل مع قضايا الشعب والالتحام به، ولكنه بدل ذلك قد دخل - بشكل ملفت للنظر - عزلة لم يكن سهلاً عليه مغادرتها والخروج منها لولا أن الحظ السيئ للأمة العربية وافاهما بانتصار آخر، حيث انضم إلى فئتهما المعزولة تجمع آخر إقليمي كان يحمل عنوان "الحزب العربي الاشتراكي" وهو حزب حموي النشأة والانتشار كان يتزعمه أكرم الحوراني. وكان أهم أهداف ذلك الحزب هو مقاومة من سموهم بالإقطاعيين في حماة. والوصول إلى الحكم بأية وسيلة متاحة، ولذلك كان الحوراني يركز على وسيلتين أساسيتين عنده هما: العمل على تحريض الفلاحين ضد ملاك الأراضي، ومحاولة الوصول إلى عناصر عسكرية يمكن التأثير عليها، وتحويلها إلى أدوات في اللعبة السياسية [ vii]. وباتحاد مجموعة الحوراني مع مجموعة عفلق والبيطار ولد النصف الثاني من الحزب ليصبح "حزب البعث العربي الاشتراكي" يقوده الثلاثي عفلق والبيطار والحوراني [ viii] بكل ما يحمل ذلك الثلاثي العجيب من عقد ومركبات نقص ومطامع

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير