تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الحزب وحتى اليوم لم يستطع الحزب أن يقدم نفسه على أنه صاحب مدرسة فكرية، كما لم يستطع أن يقدم برنامجاً عقائدياً واضحاً. فالحزب في نظر عفلق مهمته أن يشق الدرب لا أن يعبده لسالكيه، فالمهم أن تعلن أهدافاً تحسن اختيارها وتنادي بها، وتحولها إلى شعارات يسهل على الجماهير حفظها وترديدها والمناداة بها مثل "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" "الطليعة" "البعث" "الأصالة" "قدر الأمة" "الموضوعية" "المرحلة التاريخية" "اللحظة التاريخية" "الوحدة" "الحرية" "الاشتراكية" "المؤامرات الاستعمارية" "العوامل السلبية" "الثورة" "إجهاض الثورة" "العنف الثوري" "الطهر الثوري" العهر الثوري" وتأخذ خطابات وأحاديث عفلق وتلامذته توكيدات على كل ما يطرحه الحزب وكأنها أركان إيمانية متلازمة "فلا بد من الوحدة ولا بد من الحرية ولا بد من الاشتراكية" وكل هذه "اللابدات" غير قابلة للتعليل ولا للتحليل ولا للمناقشة ولا للتقديم ولا للتأخير، فالحديث عن هذه العلاقات محرم [ xii]، وجيلنا لا يزال يتذكر اختلافات الحزب مع عبد الناصر على تقديم الحرية على الوحدة أو العكس في الشعارات المطروحة.

أما الإحالات فقد أبدع القائد المؤسس فيها، وحين نقرأ أدبيات الحزب وخاصة ما كتبه عفلق نجد أن في ذهن الرجل نموذجين مثاليين. النموذج الأول: هو صورة المجتمع الغربي "الفرنسي خاصة"، والنموذج الثاني هو: نموذج العربي الجاهلي ذي العرق النقي والخيال الخصب والشعر والفروسية. ولأنه لا يستطيع التصريح بهذا النموذج المركب العجيب الذي يجمع بين جاهلية العربي الجاهلي، والنموذج الفرنسي المتقدم بقدرة خيالية عجيبة فانه كان يفضل اختزال الأفكار إلى شعارات وعبارات خطابية يرفض البحث في معانيها. ولا يسمح لأحد بتحليلها أو مناقشتها حتى لو كان من قادة الحزب.

إنه يصر على ترديد كلمة "البعث العربي" تاركاً لكل أحد أن يفهم منها ما يشاء وما يريد، إذ يكفي عنده أن يردد كلمة كهذه تستدعي جملة كبيرة من الإيحاءات لا حصر لها تمتد فيما بين الدنيا والآخرة، ولكن ما الذي يريده القائد المؤسس؟ هل هو بعث الماضي العربي أو التاريخ العربي؟ وما الذي يراد له أن يبعث منه أهو الجاهلية – التي يصفها بالنقاء العرقي – أم الإسلام أم شيء آخر يؤلفه من بينهما؟ أم ماذا؟ هذا ما يطوي عفلق عليه جوانحه، لأنه في نظره أكبر من أن تحتمله العقول التي لا تحمل عبقرية مثل عبقريته.

وهكذا شأنه مع سائر الشعارات والمصطلحات التي تم طرحها: غموض وإبهام، مع طنين ورنين، واحتمالات لا تنتهي، وأما إصراره على عدم تحديدها فذلك لأن القائد المؤسس يدرك أن فهم الأطروحات والشعارات يقود إلى البحث عن أصولها وجذورها، ويحمل على المطالبة بالتدليل عليها، وقد يؤدي إلى رفضها، وطلب البدائل عنها. وفيلسوف الحزب لا وقت لديه لهذا الصداع فليطرح ما يشاء، وليخف وراء ذلك من المعاني ما يريد، ثم يستأثر – وحده – بتحديد المراد إذا شاء ووقت ما يشاء، لأن المعاني – كل المعاني – في بطن القائد المؤسس. ولا زال جيلنا يذكر أن الرئيس الراحل عبد الناصر بعد لقاءاته بعفلق في محادثات الوحدة خرج يقول للناس في خطبة معلنة "الأستاذ بتاعهم ما اقدرتش أفهم منه غير يعني يعني يعني، كل كلمة يقولها يردد بعدها يعني يعني يعني وبعدين ما تفهمش يعني أيه"!!.

وقد كان عفلق حين تبنى دعوات عبد الناصر وأيد سياساته يستهدف ركوب الموجة لتحقيق وحدة مستعجلة، يمكن فكها في أقل من الوقت السريع الذي أبرمت فيه، كما أنه كان يظن أنه سيكون قادراً على التأثير في عبد الناصر بذات المستوى الذي أثر فيه على الضباط السوريين، وبذلك يجير عبد الناصر وشعبيته ومكانته، وما كان له من أمجاد في تلك المرحلة لصالح ذاته وحزبه. ولما رأى من عبد الناصر غير ما كان يتوهم سرعان ما نبه الخلايا النائمة للحزب الذي كان قد وافق على حله، نبه تلك الخلايا إلى خيبة أمله في عبد الناصر وضرورة النهوض بالحزب من جديد، والتخلي عن عبد الناصر. وإذا بعفلق يضحي بالوحدة وينضم ومن كان معه من عسكريين ومدنيين إلى خصوم لها، يتآمرون لفكها حتى حققوا الانفصال.

ذلك مفهوم هذا الحزب وبناؤه التاريخي، والمصادر الساذجة لفكره، أما فلسفته ومذهبيته إن جاز أن نطلق عليها فلسفة ومذهبية فتتلخص فيما يلي:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير