وقال ابن أبي العز الحنفي: "وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين" [58].
وقال الذهبي في ترجمته: "أمير المؤمنين ملك الإسلام" [59].
وقال: "ومعاوية من خيار الملوك، الذين غلب عدلهم على ظلمهم" [60].
وإذا ثبت هذا في حق معاوية؛ فإنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته، أن يحمل الناس على لعن علي t على المنابر وهو من هو في الفضل. وهذا يعني أن أولئك السلف وأهل العلم من بعدهم الذين أثنوا عليه ذلك الثناء البالغ، قد مالؤوه على الظلم والبغي واتفقوا على الضلال وهذا مما نزهت الأمة عنه بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة" [61].
2 - من علم سيرة معاوية في الملك، وما اشتهر به من الحلم والصفح، وحسن السياسة للرعية، ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه.
فقد بلغ معاوية في الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال؛ قال عبدالملك بن مروان وقد ذُكر عنده معاوية: "ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه" [62].
وقال قبيصة بن جابر: "ما رأيت أحداً أعظم حلماً، ولا أكثر سؤدداً، ولا أبعد أناة، ولا ألين مخرجاً، ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية" [63].
ونقل ابن كثير: "أن رجلاً أسمع معاوية كلاماً سيئاً شديداً، فقيل له: لو سطوت عليه؟ فقال: إني لأستحيي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي" [64].
وقال رجل لمعاوية: "ما رأيت أنذل منك، فقال معاوية: بلى من واجه الرجال بمثل هذا" [65].
فهل يُعقل بعد هذا أن يسع حلم معاوية سفهاء الناس وعامتهم المجاهرين له بالسب والشتائم، وهو أمير المؤمنين، ثم يأمر بعد ذلك بلعن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب على المنابر، ويأمر ولاته بذلك في سائر الأمصار والبلدان؟! الحكم في هذا لكل صاحب عقل وفهم.
3 - قال ابن كثير: "وقد ورد من غير وجه: أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: هل تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني ... " الخبر [66].
ونقل ابن كثير أيضاً عن جرير بن عبدالحميد عن مغيرة قال: " لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم" [67].
فهل يسوغ في عقل ودين أن يسب معاوية علياً بل ويحمل الناس على سبه وهو يعتقد فيه هذا؟!
4 - أنه لا يعرف بنقل صحيح أن معاوية تعرض لعلي بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته، فهل من المعقول أن يسبه بعد انتهاء حربه معه ووفاته؟! فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول، وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه.
5 - أن معاوية كان رجلاً ذكياً، مشهوراً بالعقل والدهاء، فلو أراد حمل الناس على سب علي–حاشاه ذلك- أفكان يطلب ذلك من مثل سعد بن أبي وقاص، وهو من هو في الفضل والورع، مع عدم دخوله في الفتنة أصلاً!! فهذا لا يفعله أقل الناس عقلاً وتدبيراً، فكيف بمعاوية.
6 - أن معاوية انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما له واجتمعت عليه الكلمة والقلوب ودانت له الأمصار بالملك، فأي نفع له في سب علي؟ بل الحكمة وحسن السياسة تقتضي عدم ذلك، لما فيه من تهدئة النفوس، وتسكين الأمور، ومثل هذا لا يخفى على معاوية الذي شهدت له الأمة بحسن السياسة والتدبير.
7 - أنه كان بين معاوية بعد استقلاله بالخلافة وأبناء علي من الأُلفة والتقارب، ما هو مشهور في كتب السير والتاريخ. ومن ذلك أن الحسن والحسين وفدا على معاوية فأجازهما بمائتي ألف. وقال لهما: "ما أجاز بهما أحد قبلي، فقال له الحسين: ولم تعط أحد أفضل منا" [68].
ودخل مرة الحسن على معاوية فقال له: "مرحباً وأهلاً بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر له بثلائمائة ألف " [69].
وهذا مما يقطع بكذب ما ادعي في حق معاوية، من حمله الناس على سب علي، إذ كيف يحصل هذا؟ مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة، والاحتفاء والتكريم. وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة، وتتجلى الحقيقة.
بقي أن يقال:
¥