يجتمع كل ليلة إلى أصحابه من الفقهاء، فلا يذكرون إلا الموت والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بينهم جنازة. كتب مرة إلى أحد إخوانه وكان في طريقه إلى الجهاد:
"إن أحق العباد بإجلال الله والخشية منه، مَنِ ابتلاه الله بمثل ما ابتلاني به، ولا أحد أشد حسابا ولا أهون على الله إن عصاه مني، فقد ضاق بما أنا فيه ذرعي، وخفت أن تكون منزلتي التي أنا بها هلاكا لي، إلا أن يتداركني الله منه برحمة، وقد بلغني أنك تريد الخروج في سبيل الله، فأحب يا أخي إذا أخذت موقفك أن تدعو الله أن يرزقني الشهادة، فإن حالي شديدة وخطري عظيم، فأسأل الله الذي ابتلاني به أن يرحمني ويعفو عني".
قبل الخلافة نشأ ناعم العيش، يؤتى بالقميص الرفيع اللين جدا فيقول: "ما أحسنه، لولا خشونة فيه".
فلما ولي الخلافة صار يلبس الغليظ المرقوع ويقول: "ما أحسنه لولا لينه".
ولا يأكل إلا العدس ونحوه، قال مالك بن دينار: " يقولون مالك زاهد، أي زهد عندي؟، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز أتته الدنيا فاغرة فاها، فتركها جملة".
قال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيرا، فقال: " بل جزى الله الإسلام عني خيرا".
وقيل له: "يا أمير المؤمنين، لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتا، دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله، فقال: " والله لأن يعذبني الله بغير النار، أحب إلي من أن يعلم من قلبي أني لذلك أهل".
ومن أقواله:
- " إنه ليمنعني من كثير الكلام مخافة المباهاة".
- " إن نفسي تواقة، وإنها لم تعط شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل، فلما أعطيت الذي لاشيء أفضل منه في الدنيا، تاقت إلى ما هو أفضل من ذلك"؛ أي الجنة.
ولم يكن رحمه الله عنه مجرد خليفة بل كان فقيها أيضا، فهو معدود من العلماء، وله آراء مذكورة في كتب الفقه والتفسير والحديث، فمن فتاواه أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وهذا القول نصره ابن تيمية، وألف كتابا في ذلك عنوانه:" الصارم المسلول على شاتم الرسول".
وفي خلافته منع أهل الذمة من إدخال الخمور بلاد المسلمين، ونهى عن النياحة، ونهى عن الغناء، وأمر بالتنكيل بمن خالف ذلك.
وبالجملة فإن خلافته كانت راشدة، اجتمعت القلوب على محبته، ولم يشذ منهم إلا من كان مريض القلب، ممن يحب نفسه، ويقدم مصلحته، ولو كان في ذلك ضرر على الأمة.
* * *
انتشر العدل في زمنه حتى بين البهائم ..
فقد روى ابن سعد في طبقاته بسنده عن راعي من رعاة الغنم: "كنا نرعى الشاء بكرمان في خلافة عمر بن عبدالعزيز، فكانت الشاء والذئاب والوحش ترعى في موضع واحد، فبينا نحن ذات ليلة إذ عرض الذئب لشاة، فقلت: ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك. قال حماد بن زيد: فحدثني هو أو غيره أنهم نظروا فوجدوه قد هلك في تلك الليلة".
وروى كذلك بسنده إلى مالك بن دينار: " لما استعمل عمر بن عبد العزيز على الناس، قالت رعاء الشاء في رؤوس الجبال: من هذا العبد الصالح الذي قام على الناس؟، قيل لهم: وما علمكم بذاك؟، قالوا: إنه إذا قام على الناس خليفة عدل كفت الذئاب عن شائنا".
إن الله قادر على شيء، فالذي جعل الأنعام طعاما للسباع، يقدر أن يجعل طعامها في الأعشاب، ومثل هذا يحدث إذا نزل عيسى عليه السلام، والسبب صلاح الناس وزوال الشر من نفوسهم والقيام بالعدل، فإذا آمن الناس، واتقوا: أمنت البهائم. قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}.
مات رضي الله عنه سنة 101هـ وعمره تسع وثلاثون سنة، كانت مدة خلافته سنتين وخمسة أشهر، وهو من نسل عمر بن الخطاب، فهو جده لأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان يلقب بالأشج، لشجة كانت في وجهه، لما مات.
قال الحسن البصري: " مات خير الناس".
وعن خالد الربعي: " إنا نجد في التوراة أن السموات والأرض تبكي على عمر بن عبدالعزيز أربعين صباحا".
وسواء صح ذلك في التوراة أم لا؟، فإن معناه صحيح، سأل رجل ابن عباس: "يا أبا عباس، أرأيت قول الله: {فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين}، فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟، قال: نعم، إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن، فأغلق بابه من السماء، الذي كان يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه: بكى عليه.
وإذا فقده مصلاه من الأرض، التي كان يصلي فيها، ويذكر الله فيها: بكت عليه. وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض" [تفسير ابن كثير سورة الزخرف]
قال الذهبي: "قلبي منشرح للشهادة لعمر أنه من أهل الجنة".
هذه القصة عبرة، وذكر الصالحين يشرح الصدور، ويقيم الحجة على الناس، فهم القدوة الحسنة لكل طالب للحق، محب لإقامة العدل.
[طبقات بن سعد 5/ 253ـ320، ابن كثير 5/ 9/192، السير 5/ 114]
ـ[حسن عبد الحي]ــــــــ[26 - 01 - 07, 09:15 م]ـ
جزاكم الله خيراً ...
وبارك الله فيكم ...
¥